مصطبة الانتظار

ثقافة 2024/02/25
...

 رضا المحمداوي

في بداية عرضه المسرحي يؤثث المؤلف والمخرج: مهند ناهض الخياط أرضية مسرحيته (تخته)، التي قدمتها نقابة الفنانين في بابل على خشبة مسرح الرشيد يوم 19/2/ 2024، بطريقة غرائبية، حيث تنتشر الرسائل الورقية الكثيرة على أرضية المسرح مع الحوار بين (الرجل- حسنين الملا) و(الشاب- أصيل عساف)، ويكشفان فيه عن أن هذه الرسائل المتكاثرة قد ملأت الشوارع ودخلت إلى باحات البيوت، في الوقت الذي لم يكنْ هنالك من يوصل هذه الرسائل، بل كانت تحملها الرياح الشمالية والشرقية وغيرها من الاتجاهات لتلقي بها في شوارع المدينة وتدخلها الى البيوت.

وسوف تزيد شخصية: ساعي البريد- محمد حمودي، هذا التأثيث غرابة حين يفصح عن مشكلته في إيصال الرسائل إلى أصحابها، حيث لا أبواب، ولا شبابيك لبيوت المدينة، إذ قام الأهالي بإزالة الأبواب والشبابيك من بيوتهم، كي لا يصلهم المزيد من هذه الرسائل الغريبة يومياً.
ووسط هذه الرسائل المتناثرة ما زال الأب ينتظر وصول الرسالة من ابنه الغائب، وهي المفارقة الدرامية الأبرز للمسرحية. ومن المناسب أنْ أذكر، هنا، أنَّ مسرحية (تخته) تنظّمُ إلى مجموعة مسرحيات أطلقت عليها تسمية أو عنوان (مسرح الانتظار)، حيث الثيمة الرئيسة تنطوي على هذا العنوان، وتستحضر المعنى العام له، وسبق للمسرح العراقي في الآونة الأخيرة أنْ شهد عرض مسرحيات عدة تناولتْ هذا الموضوع وقدَّمتْهُ في أكثر من طريقة وأسلوب وتكرّرتْ فيها ثيمة (الانتظار) وحضورها الدرامي، وستبقى هذه الفكرة وثيمتها الدرامية قابلة للتعامل المتجدد معها نظراً لما تنطوي عليه من احتمالات وتوقعات مفتوحة وقابلة للتأويل وطرح المعالجات لها والاشتغال عليها، والتأسيس المتجدد للتعاطي معها.
وتأتي (تخته) لمؤلفها ومخرجها مهند ناهض الخياط من ضمن هذا النمط أو النوع المسرحي، ومحاولة استثمارها وطرحها بشكل مغاير، أو مبتكر، حيث يجسّدُ الرجل- الأب حالة الانتظار الدائم لوصول الرسائل من ابنه المهاجر.. ذلك الأب الذي سحقتْهُ عجلات الزمن فيلوذ بمصطبة الانتظار متشبثاً بما بقي لديه من حياة كي تمدَّهُ بقوة ما للاستمرار ومواصلة التعلق بذلك الأمل البعيد.
وكان يمكن  للتأثيث الدرامي للبنية المسرحية المفترضة، بطبيعتها الغرائبية، على مستوى التأليف والإخراج أنْ يتمدد ليشمل طريقة بناء الشخصيتين الرئيستين معاً: الرجل الذي ينتظر وصول الرسائل، ومعه الشاب الآخر، كلٌّ على حدة، أو في طريقة تشابك وتفاعل الشخصيتين مع بعضهما، فضلاً عمَّا يمكن أنْ يوفرهُ وجود شخصية ساعي البريد بينهما. لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث وبقيت العلاقة بين الرجل والشاب على سكونيتها وثباتها، ولم تتسم بالتفاعل أو التعاطف بينهما، ولم تتحرك نحو مناطق التأزم أو التحوّل أو الكشف أو الإصطدام، وكان يمكن على سبيل المثال ضمن الفرضية الغرائبية التي أسّسَ لها (الخياط) مؤلفاً ومخرجاً أنْ تتداخل شخصية الشاب مع دور الابن، الذي ينتظر الأب وصول الرسائل منه أو عودة الابن نفسه، أو كأن يتوهم الرجل وجود هذا الشاب والكشف عن شخصيتهِ ودورِهِ المتشابك والمتداخل بين الحقيقة والوهم.
وينسحب الأمر نفسه على شخصية (ساعي البريد) إذ كان يفترض لظهوره المتأخر في الجزء الأخير من المسرحية أن يكون أكثر حضوراً وبقوة درامية مؤثرة وحاسمة مما ظهرتْ فيه، وكنتُ أحسبُ أنَّ ظهورهُ الساخر وبضحكه المتواصل في المشاهد الأخيرة سيحملان معه الخاتمة المرتقبة والكشف والإفصاح عن طبيعة العلاقة بين الرجل والشاب.
وفي هذا السياق لمْ تكنْ إشارات الرسائل الإلكترونية وموسيقى أجهزة الموبايل وغيرها من الأصوات لتمثّل الحل الأخير أو النهاية المتوقعة والمناسبة لحالة الانتظار الطويلة، التي تمَّ التمهيد والتأسيس لها طوال عرض المسرحية. وكذلك لمْ يكنْ اختيار (تخته)عنواناً موفقاً للمسرحية، فهذه المفردة لم تستخدم في حوارات المسرحية، ولم تتم الإشارة إليها أو التركيز عليها، لتكون حاضرة في العتبة الأولى للنص، وكان يمكن للعنوان أنْ ينبثق من حالة الانتظار الثقيل مثلاً أو الرسائل المتكاثرة، أو غيرها من المرادفات والمعاني، التي طرحها المخرج في كلمته في دليل العرض المسرحي.
اقتصر المخرج في رسمه وتصميمه للديكور (تنفيذ أحمد فيصل) على ثلاث قطع ثابتة بذات الطراز والشكل، وهي المصطبة في منتصف المسرح وكرسي في يمين المسرح، وكرسي آخر على يساره، وقد نجح في إدارة الرسم الحركي لهذه المناطق الثلاث وشغلها الممثلون الثلاثة بطريقة فنية وحيوية متحركة. وهنا لا بُدَّ من الإشادة بجهود هؤلاء الممثلين الذين حافظوا على إيقاعهم الأدائي وقدَّموا جهداً فنياً ينمُّ عن موهبة وطاقة فنية، رغم ما أصاب بعضهم  من تلعثم وتلكؤ في بعض المواضع والحالات. ولم يكن مناسباً -إخراجياً – استخدام أسلوب التغريب الملحمي وإقحام اللهجة الشعبية  في بعض الحوارات داخل النص المكتوب باللغة الفصحى، وكذلك لم تقدم الحركات التعبيرية التي أدّاها الممثلين في بعض الحالات أيَّة إضافة درامية نوعية. وأحسبُ أنَّ مثل هذه المسرحيات والعروض تحتاج إلى التقمص الأدائي والاستغراق العاطفي، للممثل مع الشخصية المؤداة أكثر مما تحتاج إلى ذلك (القطع) في عملية تماهي الممثل مع الشخصية، من خلال تلك الاستخدامات الفنية العابرة. العنصر الفني الذي كان بارزاً ومميزاً في العرض المسرحي هو تصميم وتنفيذ الإضاءة لعلي زهير المطيري، حيث الاستخدام الفني الأمثل لمصادر الإضاءة وتنوعها وتعدد مصادرها، وجاء توزيعها بطريقة فنية مؤثرة ومتحركة ولم تتخذ نمطاً ثابتاً، فمن البقع الضوئية المسلطة على موضعي الكرسيين في المقدمة، إلى الإضاءة الخلفية داخل مساحة خشبة المسرح الداخلية، ثم امتدّتْ هذه الإضاءة إلى جوانب القاعة الداخلية للمسرح، سواء في الجانب الأيمن تحديداً أو الإضاءة العلوية، والتي كانت أشبه ما تكون بإضاءة موشور العرض السينمائي في الأعلى، ولقد شكلتْ هذه الإضاءة ومصادرها (الداخلية والخارجية) وألوانها عنصراً حيوياً، وكانت أقرب إلى عملية المونتاج الصوري المتحرك داخل العرض المسرحي، وتابعتْ فيه حركة وأداء الممثل التعبيري، فضلاً عمَّا حققتْهُ من جانب جمالي مبهر.