جميل الرجة
"لا تاريخ من دون جغرافيا، فهي الأساس لتشكيل التاريخ ومنحه صورته النهائيَّة" عبارة غالباً ما يكررها الصديق الكاتب جمال حيدر في أكثر من لقاء مع تغير المكان، مؤكداً أنَّ لكل بقعة من بغداد تاريخاً، يمتد في عمق الزمن ليُلامس كل شارع وميدان وحارة وسوق، وصولاً إلى كل زقاق وبيت، تجتمع كلها لتبلور تاريخاً يلتصق بالمكان - الجغرافيا.
في كتابه "بغداد في حداثة الستينات" الصادر عام 2017 الطبعة الثانية عن دار ألكا، يبدو جمال حيدر كأنّه يحمل فانوساً ليقودنا عبر دهاليز مدينته العجيبة، نرتقي عتبات أبوابها ونفتح ثغوراً جديدة في طرقاتها، مارين بأهم معالمها، متكفلاً بمسار خطواتنا، مانحاً مساحة من التأمل والرؤية بوضوح كامل، خطوات مكفولة لك أن تتخيل، وترى الكلمات صوراً تدبُّ فيها الحركة وتصغي منها أصوات المارة والباعة.
ينقلنا الكتاب عبر صفحاته إلى أزقة وحارات وميادين وشوارع مثقلة بالمارة، ومحال عاجة بالمتسوقين، من دون نسيان أو إهمال التفاصيل الدقيقة المرافقة لهذه الطقوس اليوميَّة التي تحيا في زوايا المدينة.
في هذا الشأن يكتب حيدر بأن بغداد لا تشبه مدن الأرض، ولم تتوحّد إلا مع زمنها. احتفظت بعذوبتها وظلت مطبوعة في ذاكرة الشعوب التي صاغت اسمها كدلالة على النعيم والحياة المرفهة.
يفتتح الكتاب بفصل (أحياء) مستعرضاً في صفحاته كيف قسمت بغداد إثر الاحتلال البريطاني إلى نحو مئة محلة، وقبل أن تكتسب تلك الأحياء أسماءها كانت تعرف بـ "العكد" وهي تربو على الألف. وتسميات بعضها يستند أساساً إلى الشخصيات البارزة التي قطنتها أو الأسر التي استوطنتها أو باسم أضرحة الأولياء والأتقياء التي تضم رفاتها.
في فصل (أسواق) يشير حيدر إلى أن ليس من حيّ في بغداد من دون سوق طويلة تصل بين أطراف الأزقة، وأسواق بغداد شبيهة بالمتاهة تبدأ مع كل نهاية، وتمتد لتتحول أحياء بأكملها إلى أسواق تتفرّع منها الدروب والحارات. في الأسواق تتوافد صباحاً العربات المحمّلة بسلال الفاكهة والخضار، يحوم الزبائن حولها وهم ينتقون الأفضل.
يجلس الشيوخ على دكات المحال المتراصّة المفروشة بالبسط الملوّنة. قرويات ملفعات بالسواد ومزهوات برنين خلاخلهن الفضيَّة يعرضن أكوام الزبدة والتمور والقيمر وسط تجاذب الكائنات الغارقة في ضجيج المكان بحثاً عن البضاعة الطازجة والأقل ثمناً، مستدعية طقوس المساومة المألوفة التي اعتادها السوق. مع تأسيس بغداد في زمن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يأمر بإزالة الأسواق من المدينة المدوّرة عام 57 هـ (773 ميلاديَّة) ونقلها إلى الكرخ، في محاولة لإبعاد العامة والمتسولين بعيداً عن مركز المدينة، ولكن هل يمكن للمدن أن تحيا من غير أسواقها؟
في الكتاب ثمة طبقات متعددة من الحواس الخمس، كل شيء يكاد يُلامس تلك الحواس، فأنت ترى تلك البنايات التي أزيلت، وتسمع صوت الباعة المتجولين وضحكات الناس ووقع حوافر عربات الربل في البتاويين، وتشم رائحة شواء السمك المسكوف في أبي نؤاس ورائحة القهوة المنبعثة من المقهى البرازيليَّة، وتتذوّق شربت الحاج زبالة، وتتلمّس الكتب وأغلفتها في مكتبات شارع المتنبي.
يشير الكاتب في فصل (مقاهٍ) بأنَّ مقاهي بغداد تركت بصماتها الماثلة على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وتطوراتها بعدما غدت ملتقى الأدباء والمفكرين والسياسيين، واحتلت كل منها مجالاً خاصاً بها. وأغلب روّاد المقاهي هم: أدباء ناشئون، قارئو صحف، جنود في إجازة، باحثون عن ظل يقيم لهيب الشمس وجفاف الطقس، عاطلون يؤمون المقاهي بحثاً عن أصدقاء لسويعات معدودة. لاعبو "الدومينو" وصخب ارتطام قطعهم على سطح الطاولات ودحرجة النرد بين دفتي "الطاولة".
روّاد يجمعهم المقهى تحت سقفه وتفرّقهم مشاغلهم وهمومهم ما يلبثون أن يغادروا أماكنهم ليتخذها روّاد آخرون.. سلسلة طويلة ومحكمة من تبادل المواقع من دون أن يدرك أي طرف دوره الحقيقيّ.
ثمّة علاقة أزليَّة بين المدينة والنهر. فليس من مدن عظيمة من دون أنهار تسري في جوف تاريخها. وبغداد مدينة تغفو على جريان دجلة الوئيد، وتحيا مواسمها مع دورانه حولها. يجري النهر منذ عهود طويلة نحو نهايته الأزليَّة بهدوء، مكتشفاً علاقته السريَّة بها، حاملاً حكاياتها، ويتغلغل ببراءة في علاقات ناسها، خاصة الجسور الممتدة بين ضفتي النهر، تلك التي توشج طرفي المدينة.
يشير المؤلف إلى أن البغداديين قد تغنوا على مر العصور بنهر دجلة وضفافه وموجاته، واعتبروا متعة السمر قرب ضفافه لا تعادلها أية متعة أخرى.
ومن الأغاني الذائعة الشهرة التي تتغزل بضفاف دجلة: "على شواطئ دجلة مر" والعشرات غيرها التي ظلت راسخة في الذاكرة الجمعيَّة. (ثمة طقس يشهده دجلة في أيام محددة من كل عام، حيث تطفو ألواح الخشب المحملة بالشموع الموقدة على صفحة مياه النهر، بانتظار المراد من "الخضر".
أمهات الغرقى لهن نصيبهن من النهر أيضاً، إذ يجلسن على ضفافه ساعات طوال بانتظار الغائب أن يأتي من عباب الماء.. حتى لو كان جثة طافية.. وكم من الجثث ألقيت في النهر) ص 126 في فصل طقوس، وهو الأخير، يستعرض حيدر الكثير من تفاصيل الحياة البغداديَّة: رمضان، المحية، العيد، عاشوراء، مدارس، شموع الخضر، صيام زكريا، الكسلة، والختان. تتسع لوحة بغداد لتتسع معها طقوسها لتشكل تالياً لوحة مترامية الأبعاد تجمع بكثافة نادرة وفريدة حركة الناس وأنفاسهم ومساحة أحلامهم، تتمايز عن بعضها في بعض الأحياء، غير أنّها تبقى هوية المدينة وسكّانها.
يعرج المؤلف على طقس العيد معززاً ما تبقى في ذاكرتنا: (تضجُّ ليلة العيد باحتفال عفويّ مبالغ، أضواء تشعُّ في جوانب الأزقة، وتحتفي المنازل بمهرجان التنظيف. أسراب من النساء تهرع إلى الأفران لإعداد "الكليجة".
خلال القراءة وأنت تقترب من الصفحات الأخيرة من الكتاب تبدأ بالقراءة البطيئة في محاولة للإطالة خشية من إلقاء تحية الوداع لذاكرة تكاد أن تنسى، فهي كل ما تبقى لنا، فضلاً عن حشد من المعلومات تنقلك إلى جانب المدينة المخفي، ذلك الذي لم يخطر على البال أبداً وأنت تعيش في جوفها ولا تزال تمارس الكثير من طقوسها.