قراءة في شعر عشرين شاعرة أمريكيَّة

ثقافة 2024/02/29
...

 طالب عبد العزيز

الجغرافيا حاكمة في الفعل الثقافي العربي، ولا أظنها مصادفة أن يكون الشتاء موعداً لمعظم الأنشطة الثقافية، ولإقامة الكثير من معارض الكتب في بلادنا العربية، ذلك لأن القائمين على دراية واضحة بتوقيت أفعالهم، فما أن انتهت وقائعُ معرض القاهرة للكتاب حتى أعلنت بغداد عن معرضها السنوي، وما أن شارف معرض الأخيرة على نهايته حتى هبَّ المعرضيون حاملين كتبهم إلى مسقط، ومثل ذلك يصار سنوياً في الرياض وبيروت والشارقة والدوحة وغيرها، في شبه عقد اجتماعي، بين العواصم، يعلن عن بدء رحلة الشتاء الثقافية ويصمت عنها في الصيف.
ضمن بنود العقد الاجتماعي الجميل هذا سنظل نحن المغرمين برائحة الورق نجري، وراء الكتب، في عواصمنا شتاءً، ونحمل من هنا وهناك ما استطعنا عليه وإليه مالاً وحملاً، زاداً لأرواحنا الساغبة أبداً لخبز المعرفة، الذي يغرينا برائحته، وإن تيقَّنا بأنَّ الزمن لن يمنحنا ما يكفي لقراءة كثير مما جئنا به، ووضعناه على طاولاتنا.
أكتبُ هذه وأنا أهيئُ حقيبتي، قاصداً بغداد ومعرضها، فيما عيني لا تني تعاين الكتب، التي أتيت بها من معرض القاهرة. يا لهذه الحياة التي وُجِدنا لنقرأها، يا لهذا العمر الذي تأكله الحروف بتعبير كبيرنا نجيب المانع.
ولأنَّ مؤونةَ الشعرِ أقرب لروحي من مؤونة السرد والنثر  فقد اخترتُ ومن بيت عشرات الكتب قراءة كتاب (ثقبُ المفتاحِ لا يَرَى) وهو شعرٌ لعشرين شاعرة أمريكية، ترجمتها الدكتورة سارة حامد حوّاس، وحرره وقدَّمَ له الشاعر أحمد الشهاوي، وصدر عن مجموعة بيت الحكمة للثقافة بالقاهرة.
أمّا اختيار الشاعرات فجاء بناءً على أهميتهن في الشعر الامريكي، إذْ أنهنَّ من اللواتي حصلن على الجوائز العالمية الرفيعة مثل نوبل والبوليتزر اِبتدأت المترجمة بالشاعرة ايمي لويل(1874-1925)وانتهت بالشاعرة تريسي سميث(1972-   ) وأكادُ أجزم بأنَّ الكتابَ واحدٌ من أجمل ما ترجم للعربية من الشعر الامريكي، ولا أبالغ بقولي إنَّ د. سارة حامد حوّاس إعادت صوغ القصائد بما يحبُّ القارئُ العربي ويرتضي أنْ يكون عليه الصوغ، في جهد أثنى عليه الشاعرُ أحمد الشهاوي  بتقديمه الاجمل للكتاب.
شخصياً، أتعامل مع الكتاب المترجم إلى العربية مثلما أتعامل مع الكتاب العربي، المكتوب بالعربية، فأنا أقرأُ نصاً نُقل إلى لغتي، إذا أعجبتني لغة المترجم اقتنيته، واثنيتُ عليه، وإذا لم تعجبْني أشحتُ ببصري عنه، وبحثت عن مترجم آخر له، وربما أقولُ إنه ومن بين ترجمات عدة لقصائد سان جون بيرس- على سبيل المثال- أجدني مع ترجمة الشاعر الكبير أدونيس لا غيرها، على الرغم مما قيل عن الترجمة تلك.
يقول الشهاوي عن ترجمة سارة حوّاس:» ..تترجمُ الجملة بجملة تطابقُها في اللغة العربية.. ولغة حوّاس بعيدة عن التقعُّر والمعاظلة وتعتمدُ على الابداع والحسِّ اللغوي..» .    وليست مصادفة أيضاً أن تكون اختيارات المترجمة لشاعرات من بني جنسها دون الشعراء الرجال، فهي بذلك تريد أن تقول لنا بأنها ولأمر ما تعاملتُ مع تجارب نسوية، أرادت تشعر معهن بجملة مشتركات، لكن عبر قناة الشعر، فراحت وبعين قلبها ترصد توجهاتهن الفكرية، وعبر مراحل عمرية وظروف حياتية مختلفة، لكل واحدة منهن، في قراءة معمَّقة ومختصرة، تقدمت من كل شاعرة ببضعة صفحات، أوقفتنا فيها على أهمِّ النقاط في مسيرتهن.
فهي تقول عن الشاعرة (إدنا سانت فينست ميلاي..1892-1950) التي تبناها ثلاثة من أهم شعراء القرن العشرين هم إليوت وعزرا باوند وأودن: بأنها «شاعرة مغامرة، ومتمردة، تتخطى السقوط وتنجح» لكننا سنعلم منها بأنها  كانت رائدت السونيتات في القرن العشرين، هذه التي تقول:
«استمعوا يا أطفال:/ لقد مات والدُكم/ ومن معاطفه القديمة/ ساصنعُ لكم ستراتٍ صغيرة/ سأصنع لكم بنطلوناتٍ صغيرة من بنطلوناته القديمة/ ستكون في جيوبه /أشياء اعتاد أن يضعها فيها/ مفاتيحُ ودراهمُ مغطاة بالتبغ» .ومن بين الشاعرات التي ترجمت لهن سارة حواس هي الشاعرة جويندولين بروكس، وهي أكثر الشاعرات تاثيرا في المجتمع الامريكي، وأول شاعرة من أصول افريقية تنال جائزة البوليتزر، الشاعرة التي تدور ثيمات قصائدها حول الهوية السوداء والإنسانية والتمييز العنصري وحركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي:»أنْ تقع في الحبِّ يعني أنْ تلمس بيدِ أخفّ/ أنْ ترى الاشياءَ بعينيه».
وحين تترجم لسيلفيا بلاث (1932 - 1963) فهي تعني الشاعرة والانثى، تلك التي انتحرت بسبب خيانة زوجها البريطاني، تيد هيوز.
هذه التي تقول في حوار لها:» أحياناً أحلمُ بحياتي كأنَّها شجرةٌ، وفرعٌ منها هو الرجل، الذي ساتزوجه، والاوراق أطفالي، وفرعٌ اخرُ هو مستقبلي، ككاتبة وكلُّ ورقةٍ قصيدةٌ، و فرعٌ اخر هو .. تبدأ الاوراقُ بالذُّبول، وتتطايرُ حتى أصبحت الشجرةُ جرداءَ تماما». تأتي نظرة بلاث السوداوية هذه بسبب اليتم المبكِّر، وهي بعمر التاسعة، ومن ثم خيانة تيد هيوز لها، مع عشيقته آسيا، التي حملت منه فيما بعد، الأمر الذي صيّرها إلى الوحدة القاسية والاكتئاب، الذي لم تتحمله فانتحرت: «أفكاري مشوشةٌ ذاتُ مزاج سيئ/ دموعي كالخلِّ/ أو كالاصفر الوامض المُرِّ لنجمة لاذعة/ الليلةُ، الرياحُ الحارقةُ والحبُ والثرثرة عاجلة ومتاخرة»
  (ثقبُ المفتاح لا يَرَى) واحدٌ من أندر الكتب التي تطلعنا على الشعر النسوي الامريكي، صنعته لنا مترجمةٌ مقتدرة، جمعت فيه مختارات لعشرين شاعرة، لم يكنَّ عابرات في الثقافة الامريكية. لن نقدر على عرض تفاصيله كلّها، لذا، سنترك للقارئ فرصة التعرف عليه بنفسه، لأنَّه زادٌ ثقافيٌّ مفارق، أخذتنا اليه خرائطُ الشتاء، يوم كنا بقاهرة المعزِّ الفاطميِّ العظيمة.