حازم رعد
ينمو العقل بممارسة التفكير وبدونه يبقى راكداً قاحلاً من وجهات النظر والقراءات النظرية للواقع، فالعقل يعيد انتاج نفسه ويتطور على أساس تطوير قابلياته بالتفكير والحفر وتثوير .
ولكن، هل من المعقول أن أظل أردد أفكاراً سابقة أريد عبرها أن أرسم ملامح الحاضر بفرشاة وألوان قديمة، قد يكون بعض منها عفو عليها الدهر، أليس ذلك يعني توقف العقل عن التفكير ومنحه اجازة اجبارية من العمل؟ تخيل مع ذلك كمية الاجترار واعادة التكرار الممل للسوابق والقبليات التي تحصل جراء عملية تفترض أنها باقية ومستمرة من دون توقف، والشيء الوحيد الذي ينتج عنها بشكل دائم ارغام العقل على إهمال العمل «ترك التفكير» وأغراقه بالماضي «الذي هو ضرورة أيضاً ولا غنى عنه» لأنه تجربة جاهزة، فاذا كانت ناجحة وفرت لنا خبرة بالواقع، وعرفتنا مكامن الأخطاء لتجنبها وتجاوزها، وأيضاً تعرفنا أن نبدع وذلك بمحاولة تطوير أساليبنا وطرقنا التي من خلالها نتناول الأشياء ونتعامل بها معها ونحقق بذلك علاوة على السرعة في الانجاز، ضروب أخرى من التجربة المرافقة للتفكير واستخدام العقل بطريقة جيدة.
لا شك أننا بحاجة ماسة إلى أفكار الماضين. فهي مادة جاهزة للتفكير فيها والبحث في جذورها وأسباب نشأتها ويحقق لنا معرفة التاريخ أولاً «لأن تاريخ الفلسفة والتفكير هو تاريخ العالم»، وكذلك تفيدنا بتصورات عن طريقة فهم العقل الماضوي للحياة وأساليب العيش ونظرته الكلية الفكرية عن الكون والعالم، وكل ذلك بمثابة مواد أولية ننطلق من خلالها -لا - إلى القول بالجمود على تلك الأفكار والرؤى، بل البحث فيها ونقدها والتجديد عليها، وتحقيق دفق معرفي يفيد في الحياة العامة والخاصة، ويوفر مادة جديدة للآخرين ينطلقون من تحليلها ونقدها إلى فهم جديد يتناسب مع بيئاتهم وظروفهم وحيواتهم.
فالمعرفة الفلسفية ركام غير تجاوزي من الأفكار يقوم اللاحق فيها على السابق، ولكن ينضجه ويفيد منه ليبدع منظومة أفكاره الخاصة الجديدة المناسبة.
أما التوجه القائل بإقصار العقل على الحفظ، وتسجيل البيانات الوافدة من التاريخ والتوقف عندها، سيجعلنا أمام ركام هائل من الجثث في التاريخ، موتى يحكمون الأحياء يسطرون لهم طريقة عيشهم واشكال حيواتهم.
فما الجدوى من وجود العقل؟
رغم أنه يقال إنه مجرد وعاء «ذاكرة للقراءة» فقط «RAM” لكنه بلغة الحاسب الالكتروني لا يسمح له بأن يكتب ويكون له خصوصية يعرف من خلالها ويثبت حضوره بها.
مع أن كل شيء يشير إلى عكس ذلك، فان العقل الذي وهب للإنسان يتوفر على امكانيات مذهلة لا على مستوى التفكير والتجديد فقط، وإنما على الفحص والمراجعات المستمرة لمحتويات الذاكرة والقيام بتحليلها والوقوف على نقاط الضعف والقوة التي تكتنزها الأفكار والمعلومات والتصورات التي محلها تلك الذاكرة، ثم أن نفس التاريخ ينبئنا بأن التفكير في ما سبق من أفكار وإعادة مراجعتها بشكل نقدي وتصحيحي يسهم في تحقق تقدم على مستوى الأفكار والنظريات وعلى مستوى فهم العالم وحركة الأشياء. إن طريقة التفكير في النظريات القديمة التي قام بها كوبرنيكوس، وغاليلو غاليلي، واسحاق نيوتن، واعادة النظر في المنهج القديم الذي عمل عليه أبو الفلسفة الحديثة “رينيه ديكارت” ومحاولات رسم حدود العقل التي شغلت “ايمانويل كانط” أدت إلى هذه القفزة النوعية على مستويات عديدة، منها تطور العلوم والكشف عن حقائق كانت مندثرة تحت ركام التصورات القديمة للفلك، والفيزياء، والفلسفة، والرياضيات، والمنهج المتبع الذي هو أساس عملية التغيير والتجديد.
وهذا برهان آخر يضاف إلى الجدوى من إعادة النظر في أفكار السابقين والتعمق في نقد رؤاهم وأفكارهم للكشف عن جديد يفيدنا في تطور الحياة الحاضرة بمستوياتها المختلفة.