د. حيدر عبد السادة جودة
للعقل عند محمد إقبال مكانة خاصة، وقوة إدراكية مهمة في فهم حقائق الكون، ويستند إقبال في ذلك على "القرآن الكريم"، وقد أعتبر أن الارتقاء البشري من خصيصة الإنسان، وهو موهوب أيضاً من لدن الله تعالى.
وهذه القوة الإدراكية ينفرد بها الإنسان من دون الكائنات الأخرى، وبفضلها يدرك الإنسان ما هو قابل للملاحظة من الحقيقة.
ويرى إقبال أن التجربة الدينية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مراحل: مرحلة الإيمان، مرحلة الفكر، ومرحلة الكشف.
وقد ظهرت هذه المحاولة في التقسيم لاحقاً، مع الدكتور محمد عابد الجابري، حيث قسم التراث إلى ثلاث دوائر كبرى- مع اختلاف المضمون، وهي: البيان، والعرفان، والبرهان.
ولا نريد أن ندخل في تفاصيل تأثر الجابري بإقبال، واختلاف وتشابه ذلك التقسيم.
ويصف إقبال الحياة الدينية في المرحلة الأولى تبدو كأنها شكل من أشكال النظام، الذي ينبغي على الفرد والأمة بأكملها أن تقبله كأمر غير مشروط، وبدون التكلّف بأعمال العقل في فهم معنى هذا الأمر أو غايته القصوى.
أما في المرحلة الثانية فنجد الخضوع الكامل لنظام ما يتبعه تفهّم عقلاني لهذا النظام وللمصدر الأعلى لمرجعيته، وفي هذه المرحلة تبحث الحياة الدينية عن أسسها في نوع من الميتافيزيقا.
أما في المرحلة الثالثة فيحل علم النفس محل الميتافيزيقا، وتنمّي التجربة الدينية في الإنسان طموحه إلى الاتصال المباشر بالحقيقة المطلقة.
وإذا كان العقل أساس الفلسفة، وكان الدين قائماً على الإيمان، وكان همه- أي إقبال- يكمن في إمكانية استخدام المنهج العقلي في مباحث الدين، يعقد إقبال مقارنة ما بين الدين والفلسفة، فيرى إقبال: أن روح الفلسفة هي التساؤل الحر، إذ تضع كل سلطة موضع الشك، وكذلك من وظائفها تعقب الفروض الواهية في الفكر الإنساني إلى جذورها الخفية، وقد تنتهي في هذا المسعى إلى إنكار العقل الخالص أو الاعتراف صراحة بعجزه عن الوصول إلى
الحقيقة المطلقة.
وهذا ما لمّح له الفيلسوف الألماني "إيمانؤيل كانت" في مقدمة كتابه "نقد العقل المحض"، حيث يقول الأخير: "للعقل البشري، في نوع من معارفه، ذلك القدر الخاص: أن يكون مرهقاً بأسئلة لا يمكنه ردّها، لأنها مفروضة عليه بطبيعة العقل نفسه؛ ولا يمكنه أيضاً أن يجيب عنها، لأنها تتخطى كلياً قدرة العقل
البشري".
لكن إقبال يذهب إلى أن الرأي الذي يقول إن العقل بحكم طبيعته متناه، ومن ثم فإنه غير قادر على إدراك اللامتناهي، هو رأي قائم على فكرة خاطئة عن حركة العقل في تحصيل المعرفة.
لأن الفكر في طبيعته الأصلية ليس جامداً بل ديناميكي فعّال، يكشف عن اللانهائية في البحث.
أما جوهر الدين فهو الإيمان، والإيمان كالطير يعرف طريقه الذي لم يسلكه كائن قبله.. وهو أي الإيمان -أكثر من مجرد شعور؛ ففيه شيء كالمضمون الإدراكي، وكذلك فإن الفلسفة ترى الحقيقة على ما تظهر عليه من بعيد، بينما يهدف الدين إلى توثيق صلته بالحقيقة عن قرب؛ والفلسفة نظرية، أما الدين فتجربة حيّة، إنها مصاحبة واتصال حميم.
ومع إن مطامح الدين تسمو على ما تطمح إليه الفلسفة، فالدين لا يقنع بمجرد الإدراك، وإنما يبحث عن علم وثيق، كما يبحث عن صلة أكثر التحاماً بالموضوع الذي يبحثه، إلا أن الدين من حيث وظيفته، هو أكثر حاجة لأساس عقلي لمبادئه الجوهرية من حاجة المعتقدات العلمية، فقد يتجاهل العلم الميتافيزيقا العقلية.
أما الدين فلا يكاد يحتمل أن يتجنب البحث عن الملائمة بين تناقضات التجربة ومسوّغات البيئة التي تحيط بالإنسانية، وإلى هذا المعنى ألمع (هوايتهد) بقوله: "إن عصور الإيمان هي عصور العقلانية".
إلا أن إقبال ينبه من أن عقلنة الإيمان ليس تسليماً بتفوق الفلسفة على الدين، فالفلسفة بلا شك من حقها أن تصدر أحكاماً على الدين، ولكن هذا الذي تحكم عليه الفلسفة له طبيعة لا تخضع لحكم الفلسفة إلا بشروطه الخاصة، كما أن الفلسفة عندما تتصدّى للحكم على الدين لا يمكنها أن تجعل الدين في وضع أقل قيمة
من معطياتها الأخرى.
وجاء حرص إقبال على التوفيق ما بين المنهج العقلي والدين، من خلال انطلاقه من منطلقات فلسفية، فيمكن القول
إن كتاب (تجديد الفكر الديني في الإسلام) هو كتاب فلسفي بامتياز، والبعد الفلسفي هو أكثر ما يميّز محاولة إقبال في تجديد الفكر الديني، فهو البعد الذي كان
ينطلق منه، ويستند إليه كإطار منهجي ومعرفي، كما أنه البعد الذي كان إقبال ضالعاً فيه، وبارعاً في معارفه، وكذلك إيمانه بأن سبيل الإصلاح والتجديد للإنسان
المسلم والإنسان المعاصر وحضارته المعاصرة، فالدين هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري إعداداً خلقياً يؤهله لتحمل التبعة العظمى، التي لا بد من أن يتمخض عنها تقدّم العلم
الحديث.
أما في ما يتعلق بعلاقة الدين بالعلم، فيقول إقبال: إن العملية الدينية والعملية العلمية، على الرغم من إتباعهما مناهج مختلفة إلا أنهما متماثلتان تماماً في غايتهما النهائية.
فكل من الدين والعلم يهدف إلى الوصول إلى أقصى درجات الحقيقة، غير أن الدين أكثر حرصاً من العلم على الوصول إلى الحق المطلق... وكلاهما أيضاً متوازيان ومتشابهان بمعنى من المعاني؛ فكليهما في الحقيقة يصفان عالماً واحداً، مع فارق وحيد هو: أننا في العلم نستبعد بالضرورة وجهة نظر الذات، بينما في الدين تؤلف الذات بين ميولها المتصارعة، لتنشئ موقفاً واحداً شاملاً يؤدي إلى نوع من التحول التركيبي لتجاربها.
وبالتالي فإن بين العلم والدين تناغماً متبادلاً غير مشكوك فيه.