إسرائيل تتعمد تجويع الفلسطينيين
نينا لاكاني
ترجمة: أنيس الصفار
تتعمد إسرائيل تجويع الفلسطينيين ومن الواجب محاسبتها بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، على حد تعبير خبير بارز في الأمم المتحدة بشأن حق الحصول على الغذاء.
ينتشر الجوع وسوء التغذية الشديد على نطاق واسع في قطاع غزة حيث يواجه نحو 2،2 مليون من الفلسطينيين أزمات شحّ حاد جراء تدمير إسرائيل الإمدادات الغذائية وفرضها حظراً مشدداً على تدفق المواد الغذائية والطبية وسواها من الاحتياجات الإنسانية. شاحنات الإغاثة وكذلك الفلسطينيون الذين يقفون بانتظار المساعدات الإنسانية يتعرضون جميعاً للنيران الإسرائيلية.
يقول «مايكل فخري» المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بشؤون حق الحصول على الغذاء: «ما من سبب لمنع مرور المساعدات الإنسانية المتعمد أو الاستهداف المقصود لمراكب صيد السمك الصغيرة أو البيوت الدفيئة والبساتين في غزة سوى محاولة حرمان الناس من الحصول على قوتهم.»
يمضي فخري فيقول: «حرمان الناس من الطعام بصورة متعمدة جريمة حرب واضحة لا لبس فيها. وقد أسفرت إسرائيل عن نيتها على تدمير الشعب الفلسطيني، كلياً أو جزئياً، وذلك ببساطة لمجرد كونه فلسطينياً. هذا الوضع من وجهة نظري، بصفتي خبيراً في مجال حقوق الإنسان أعمل في الأمم المتحدة، حالة إبادة جماعية. معنى هذا أنَّ دولة إسرائيل بأكملها تتحمل الذنب وينبغي محاسبتها.. لا مجرد أفراد معينين أو هذه الحكومة بالذات أو ذلك الشخص بالتحديد.»
في حالات المجاعة.. سواء تلك التي من صنع الإنسان أو التي بسبب المناخ.. يكون الأطفال والرضع والنساء الحوامل وكبار السن هم الأكثر عرضة لسوء التغذية والمرض والموت المبكر.
تظهر الفحوص الغذائية التي اجريت في المراكز الصحية والملاجئ خلال شهر كانون الثاني أنَّ ما يقارب 16 % من الأطفال دون سن الثانية – أي ما يعادل واحداً من كل ستة رضع – كانوا يعانون من سوء تغذية حقيقي أو من الهزال في مناطق شمال غزة، حيث حوصر نحو 300 ألف شخص ومنعت عنهم المساعدات الغذائية منعاً كلياً من قبل إسرائيل. من بين هؤلاء يعاني ما يقارب 3 % حالات هزال شديد مصحوبة بخطر المضاعفات الصحية أو الوفاة ما لم تصلهم مساعدات عاجلة، وفقاً لتقرير حديث صادر عن الأمم المتحدة. كذلك ظهرت تقارير تحدثت عن عوائل صارت تطعم أطفالها علف الحيوانات على أمل ابقائهم على قيد الحياة.
أما في رفح الواقعة الى الجنوب، حيث تركز إسرائيل هجماتها العسكرية حالياً، فإن 5% من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن عامين يعانون من سوء تغذية حاد. لم يكن الهزال مصدر قلق أساسي في غزة قبل اندلاع الصراع الأخير، كما لم تتعدَّ نسبة الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من سوء التغذية الحاد 0,8 %.
تلفت اليونيسيف – التي منعت من دخول الجزء الشمالي من غزة رغم طلباتها اليومية المتكررة لذلك منذ الأول من شهر كانون الثاني – الانتباه الى أنَّ عمليات الفحص المذكورة قد أجريت في شهر كانون الثاني، وتحذر من أن يكون الوضع اليوم أسوأ على الأرجح. يقول فخري، وهو استاذ في القانون من جامعة أوريغون: «السرعة التي يتفاقم بها سوء التغذية لدى الأطفال الصغار مذهلة هي الأخرى. لا ريب أنَّ القصف بالقنابل والقتل المباشر للناس أمر وحشي بشع، ولكن هذه المجاعة .. كل هذا الهزال والتقزم بين الأطفال.. ينطوي على التعذيب وينم عن الحقارة. كل هذا ستكون له آثار بعيدة المدى على هذه الشريحة من الفلسطينيين بدنياً ومعرفياً ومعنوياً .. هذه الأمور مجتمعة تشير كلها إلى أنَّ هذا بالضبط هو المقصود.»
تجويع المدنيين عمداً «بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها للبقاء على قيد الحياة، بما في ذلك تعمد عرقلة وصول إمدادات الإغاثة اليهم» هو جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. والمواد المقصودة التي لا غنى عنها تشمل الطعام والماء والمأوى .. وهذه كلها عملت إسرائيل على حرمان الفلسطينيين منها بشكل ممنهج. يعتبر التجويع أيضاً جريمة حرب بموجب اتفاقيات جنيف وميثاق روما. كذلك اعترف به كجريمة حرب وانتهاك عام للقانون الدولي من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في العام 2018.
في مختلف أنحاء غزة تضيّق 95 % من العوائل على أنفسها في وجبات الطعام وتعمد الى تحجيم الحصص، وكثيراً ما يتخلى البالغون عن حصصهم مؤثرين إطعام أطفالهم الصغار. أضف إلى ذلك أنَّ هذا القدر اليسير من الطعام الذي يحصل عليه هؤلاء يكون مفتقراً ايضاً الى العناصر الغذائية الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان كي ينمو ويتطور بدنياً وذهنياً.
كشفت عمليات مسح أجريت أنّ العوائل المشمولة تحصل في المعدل على أقل من لتر من الماء الصالح للشرب للشخص الواحد يومياً. كما أن90 % على الأقل من الأطفال دون سن الخامسة مصابون بنوع أو أكثر من أنواع الأمراض المعدية.
يقول الدكتور «مايك رايان» المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ في منظمة الصحة العالمية: «الجوع والمرض قرينان قاتلان.»
تفصح السرعة التي تطورت بها أزمة سوء التغذية هذه عن حقيقة أن نصف سكان غزة كانوا يعانون أصلاً من انعدام الأمن الغذائي حتى قبل وقوع هذه الحرب، وأن 80 ٪ منهم كانوا معتمدين على المساعدات الإنسانية بسبب الحصار المستمر عليهم منذ 16 عاماً.
في العام 2019 توصلت دراسة تناولت الزراعة على نطاق ضيق في المناطق الفلسطينية إلى أنَّ الاحتلال الاسرائيلي هو المحرك المفرد الأهم في فقدان الأمن الغذائي.
يقول فخري: «لقد كان الوضع هشاً للغاية منذ البداية بسبب القبضة الخانقة التي فرضتها إسرائيل على كل ما يدخل إلى غزة أو يخرج منها. لذا تمكنت إسرائيل بمنتهى السهولة أن تخضع الجميع للجوع بمجرد اندلاع الحرب لأنها كانت قد دفعت معظم الناس إلى حافة الهاوية.»
يتابع فخري قائلاً: «لم نشهد على الاطلاق مدنيين يدفعون إلى أحضان المجاعة بهذه السرعة وبهذا النحو المتكامل، وهنالك إجماع على هذا الرأي بين خبراء المجاعة. فاسرائيل لا تستهدف المدنيين فحسب، بل تحاول القضاء على مستقبل الشعب الفلسطيني من خلال الحاق الضرر بأطفالهم.»
لا يزال بالإمكان أن يزداد هذا الوضع الكارثي سوءاً. ففي أواخر شهر كانون الثاني أقدمت أكثر من عشر دول، بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واستراليا وكندا، على تعليق التمويل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «اونروا».
تم تعليق التمويل هذا مباشرة بعد أن قدمت إسرائيل إدعاءات، غير مسندة بدليل، بحق 12 موظفاً يعملون في «اونروا» اتهمتهم فيها بأن لهم صلات بحماس وفي اليوم نفسه اصدرت محكمة العدل الدولي حكمها المؤقت القاضي بأن تتخذ إسرائيل كافة التدابير الممكنة لمنع أعمال الإبادة الجماعية والقيام بخطوات فورية تضمن توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة.
تؤمّن «أونروا»، التي يعمل فيها نحو 30 ألف موظف، الغذاء والرعاية الصحية والتعليم في ظروف الطوارئ الى جانب خدمات أساسية أخرى لما يقارب 6 ملايين لاجئ فلسطيني في غزة والضفة الغربية المحتلة ولبنان وسوريا ولبنان والقدس الشرقية. وفي يوم الجمعة الماضي صرحت «أونروا» بأنها قد لا تعود قادرة على مواصلة عملها في شمال غزة، حيث تم تسليم آخر شحنة من الأغذية هناك قبل خمسة أسابيع.
يقول فخري: «قطع التمويل بشكل فوري تقريباً بناء على إدعاءات لا تستند الى دليل ضد مجموعة صغيرة من الأشخاص لا يمكن ان تكون وراءه من غاية سوى إنزال عقاب جماعي بكافة الفلسطينيين الموجودين في عدة دول. أما الدول التي قطعت شريان الحياة هذا فإنها متواطئة بلا شك وشريك في تجويع الفلسطينيين.»
في يوم الاثنين أعلنت منظمة العفو الدولية ان اسرائيل قد أخفقت في اتخاذ ولو الحد الأدنى من الاجراءات امتثالاً منها لحكم محكمة العدل الدولية القاضي بضمان وصول ما يكفي من المواد والخدمات المسعفة للحياة الى السكان المعرضين لخطر الابادة وهم على شفير المجاعة.
تحتج الحكومة الاسرائيلية على ذلك بأن حربها ضد حماس ردة فعل مبررة على الهجوم غير المسبوق عبر الحدود الذي وقع في 7 تشرين الأول وخلف أكثر من 1100 قتيل إسرائيلي. منذ ذلك الحين فقد ما يناهز 30 ألف من سكان غزة حياتهم بسبب الهجمات الاسرائيلية، وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية، بالإضافة الى 70 ألف مصاب وجريح، ناهيك عن آلاف المفقودين الذين افترضوا في عداد الأموات هم أيضاً. ولا يزال هناك ما يقدر بـ 134 إسرائيلياً محتجزون كرهائن لدى حماس.
كانت اسرائيل دائبة على مدى السنوات على استهداف مصادر الغذاء والمياه الفلسطينية. لذا جعلت جمع الأعشاب البرية المحلية، مثل الزعتر والعكوب والمريمية، جريمة جنائية يعاقب عليها بالغرامة أو السجن لفترات تصل الى ثلاث سنوات. كذلك كان صيادو السمك الفلسطينيون يتعرضون لإطلاق النار والاعتقال والتخريب على يد القوات الاسرائيلية انتهاكاً لاتفاقيات أوسلو 1995 التي سمحت لهم بمنافذ لصيد السمك تمتد الى مسافة 20 ميلاً بحرياً. كذلك فإن العنف الحالي ضد الفلسطينيين وامداداتهم من الغذاء والماء قد امتد الى الضفة الغربية المحتلة. فبعد هجوم 7 تشرين الأول بقيت مساحات من بساتين الزيتون في الضفة الغربية تصل الى 24 ألف أيكر دون حصاد بعد ان منعت اسرائيل المزارعين من الوصول الى بساتينهم، ما ادى الى خسارة 1200 طن من زيت الزيتون تصل قيمتها الى 10 ملايين دولار. زيت الزيتون مادة رئيسية للتصدير بالنسبة للفلسطينيين، ولكنه أيضاً رمز له قيمته للهوية الفلسطينية.
يقول فخري: «تدمير اشجار الزيتون لا يتعلق بالغذاء او التجارة فقط، بل هو ماثل في صميم ما يعنيه ان تكون فلسطينياً مرتبطاً بالأرض، تماماً مثلما ان البحر يعني ما يعنيه حين تكون من أبناء غزة.»
يضيف فخري قائلاً: «سوف تدعي إسرائيل أنَّ لجرائم الحرب استثناءات. لكن الإبادة الجماعية ليست لها استثناءات وما من حجة تبرر لاسرائيل تدمير البنى التحتية المدنية والنظام الغذائي والعاملين في مجال الإغاثة الإنسانية والسماح بكل هذه الفداحة من الجوع وسوء التغذية. تهمة الابادة الجماعية تحمّل دولة بأكملها المسؤولية، وعلاج الابادة الجماعية يتمثل في حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. فالطريق إلى الأمام لا يقف عند حد إنهاء الحرب فقط، بل يجب إحلال السلام الفعلي.»
* عن صحيفة الغارديان