محمود صبري واقعيَّة الكم وجداريَّة وطني

ثقافة 2024/03/03
...

 لندن: عدنان حسين أحمد


نظّم المقهى الثقافي في لندن محاضرة نوعيَّة مهمَّة للفنان التشكيلي ساطع هاشم بعنوان "محمود صبري، فنان الحواس والمعاناة" تناولت محاور تغطي جوانب كثيرة من تجربته الفنيَّة والثقافيَّة والجماليَّة، وانشغالاته السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة، مُركزة على نتاجاته الفنيَّة الأولى مثل لوحات "الجزائر" و "البطولة والشهداء"، ثمّ أعمال "واقعيَّة الكم"، وجداريَّة "وطني" وغيرها من التحف الفنيَّة التي ظلت راسخة في الذاكرة الجمعيَّة للفنانين والمثقفين العراقيين والعرب على حدٍّ سواء. 

لا يمكن الإحاطة بكلِّ تفاصيل هذه المحاضرة التي تهيَّأ لها أعضاء المقهى الثقافي جيدًا، إذ كلّفوا المخرج السينمائي علي رفيق بتقديم الضيف المحاضر وإدارة الندوة الفنيَّة والثقافيَّة. 

وتوقف رفيق عند أبرز المحطات الفنيَّة في حياة محمود صبري وأسهب في الحديث عنها مُتتبعًا سيرته الذاتيَّة والإبداعيَّة، ثمّ فسح المجال للفنان والناقد التشكيلي ساطع هاشم الذي استهلّ محاضرته بالقول، إنَّ "الحديث عن الفنان الكبير محمود صبري يستدعي الإشارة إلى السياسة، والاجتماع، والعلم، والفلسفة لأنّه شخص موسوعي وله تأثير كبير على الثقافة العراقيَّة". 

تطورت علاقة ساطع بمحمود صبري في الأعوام الأخيرة من حياته، وتشرّف، على حدِّ قوله، بأن يكون المشرف الفني على معرضه الاستعادي عام 2013، والذي جاء بعد 52 عامًا على معرضه الأخير الذي أُقيم في براغ. 

تنطوي المحاضرة على كثير من الشذرات والالتماعات التي تغنينا عن الإفاضة والإسهاب في الكلام.

 ومن الأشياء المهمة التي أوردها ساطع أنّ اللوحات التي سيعرضها تِباعًا لمحمود صبري كمفكر بالصورة، فهو فنان واقعي واجتماعي، لكنّه ليس رسّامًا تسجيليًا، لأنّ الفكرة تسبق التسجيل وتتقدّم عليه كثيرًا، ولهذا السبب فقد اختار هاشم مجموعة قليلة من أعماله الفنيَّة التي رآها وتمثّلها جيدًا لأنّها مُميزة من جهة ومعروفة للجمهور من جهة أخرى.

وأول هذه اللوحات المتفرّدة هي "الجزائر" التي أنجزها صبري عام 1957.

ومذ كان ساطع صبيًا في الحادية عشرة من عمره كان يزور كولبنكيان أو "المتحف الوطني للفن الحديث" في الباب الشرقي ويستمتع برؤية لوحة "الجزائر" التي ليس فيها ما يشير إلى العلم الفرنسي أو الجزائري، ولكنّه يختصر مضمونها بدقة حينما ينتبه إلى ثيمة "الاحتجاج" على الوضع المأساوي في البلد ويجسّد العذاب البشري ليس بمسحته المحليَّة فقط، وإنما بمنظوره الكوني الواسع. 

يشبّه ساطع الفنان محمود صبري بالكُتاب الواقعيين في القرن التاسع عشر أمثال تشارلس ديكنز، وفلوبير وإميل زولا في فرنسا الذين صوّروا الحياة تصويرًا واقعيًا من دون الاستغراق في المثاليات أو الاعتماد على الخيال المجنّح، إذ وصلوا إلى أعماق المجتمع وسلّطوا الضوء على المناطق المعتمة فيه.

سافر صبري إلى إنكلترا والاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا وكان موضوع السفر والدراسة في موسكو من أخصب فترات حياته، كما يرى الباحث، وقد أنجز تخطيطات جدارية "وطني" التي قيل إنّه كان يريد أن ينفّذها على ظهر جداريَّة "نُصب الحريَّة" لجواد سليم لكنّه كان يفضّل أن ترتفع هذه الجداريَّة في إحدى ساحات بغداد.

توقف هاشم عند لوحة الشهيد نعمان محمد صالح الذي فارق الحياة نتيجة إضرابه عن الطعام. 

وفي اللوحة يُظهر مجموعة من الشبيبة الذين يشيّعونه ويحملونه في نعش على رؤوسهم، ومن الجهة الأخرى ثمة موسيقيون يعزفون له موسيقى العرس، لأن الشاب كان أعزبًا. 

يؤكد الباحث بأنّ ألوان صبري الترابيَّة كانت محدودة، وهي تقتصر على الأحمر والأسود والأوكر، وأنّ الموضوع هو الشيء الأهم في لوحته الفنيَّة. 

وفي السياق ذاته يتوقف الباحث عند لوحة "البطل" أو "البطولة" التي تدور ثيمتها على الشهيد سلام عادل عام 1963، واستشهاد بقية رفاقه المناضلين وأشار إلى ملحوظة أحد طلبة الدكتوراه في جامعة هارفارد الذي رأى أنّ هذه اللوحة تحمل بعض تأثيرات الفنان الأسباني فرانسيسكو دي غويا من حيث البناء. 

وما إن تنتهي هذه المرحلة حتى يدخل صبري في مرحلة "القلق الفكري" وينتقل من "الماديَّة التاريخيَّة" إلى "الماديَّة الديالكتيكيَّة" ويظل نحو عشر سنوات متأرجحًا بين الاثنتين.

يعتقد الباحث أنَّ 90 بالمئة من الماركسيين في العالم بدؤوا يفكرون بطريقة أخرى بعد الحرب العالميَّة الثانية، وكان الكثير من الفنانين السوفيت معارضين لمفهوم "الواقعيَّة الاشتراكيَّة" ولكنهم ليسوا معارضين للنظام، من وجهة نظر الباحث، ولا يقفون ضد الاشتراكية أو الشيوعيَّة ولكنهم كانوا يطالبون بانفتاح أكثر وبحريَّة أوسع للفنان حتى يصوغ أساليبه بطريقة جديدة تتلاءم مع روح العصر.

ينوّه الباحث بأنّ محمود صبري كان أول من ربط الفن بالعلم وخاصة النظرية النسبيَّة، وواقعيَّة الكم وقد حاول الكثير من فناني الستينات صياغة أعمال مبنية على هذه النظرية، ولكن ساطع يرى بأن أول من استعمل مصطلح (واقعيَّة الكم) هو الفنان السوريالي سلفادور دالي عام 1950، وليس محمود صبري ويُورد أمثلة لأكثر من لوحة يرسم فيها دالي زوجته كمركز للذرة تدور حولها الكواكب والسماوات مثل لوحة Spherical Galatea وغيرها من الأعمال الفنيَّة الأخرى.

يرى الباحث أنّ أهمّ الكتب التي أثرّت في محمود صبري وأعتبره إنجيلاً بالنسبة إليه هو كتاب "علم الأطياف" Spekteral Tabellen لـ أي. أن. زايدل، و في. كي. بروكوفيف، و أس. أم. ريسكي وهذا الكتاب هو الذي دفع الباحث ساطع هاشم لدراسة أعمال محمود صبري الفنيَّة.

اكتسب صبري الكثير من المهارة التقنية من أستاذه ألكسندر دينيكا الذي كان أحد الأسماء البارزة في رسم اللوحات الجداريَّة.

وفي سياق التأثر يؤكد بعض النقاد على تأثر صبري بالفنان كوكوشكا والتعبيريَّة والألمانيَّة، ومن يدقّق في غالبية لوحاته سيجد معالم هذا التأثير واضحة في الكثير من أعماله الفنيَّة. 

وتذهب الناقدة فاطمة المحسن إلى تأثر صبري بالفنان المكسيكي دييغو ريفيرا.

وأكثر من ذلك فإنّ رودولف خدربا، الباحث في نظريات وتاريخ الفن التابع لأكاديميَّة العلوم التشيكوسلوفاكية يذهب إلى أنّه متأثر بأسلوب ثيو فان دوبسبرغ مؤسس جماعة "دي ستيل" التي "ترتبط بالتأملات الفلسفيَّة التي تُنقل إلى صورة عن طريق الحدْس والتخمين". 

علمًا بأن جماعة De Stijl التي تُعرَف بالـ   Neoplaticism أو "الفن التشكيلي الجديد" التي يمكن أن نجد صداها في أعمال الفنان موندريان الذي كان يسعى إلى التجريد المحض ويستعمل الألوان الأساسية هي قريبة ومحاذية لأعمال صبري التي تتبنّى "واقعيَّة الكم"، إذ اشتغل ساطع هاشم على "نظرية الكم" التي بلوّر مفهومها آنشتاين بمعادلة تفيد بأنّ (الطاقة = الكتلة X معدّل سرعة الضوء) وأنجز العديد من اللوحات المهمة والجميلة في هذا المضمار.