شجون قصيدة النثر وتحولاتها

ثقافة 2024/03/03
...

  عباس السلامي 

لا يخفى على القارئ والناقد المتابع أن كتاب «شجون الغريبة» للناقد اليمني علوان الجيلاني الصادر عن دار عناوين 2023 القاهرة، يعد من الكتب المهمة في تناول قصيدة النثر، يوازي في أهميته كتاب «الثمرة المحرَّمة» للناقد الدكتور حاتم الصكَر. ما يميز هذا الكتاب تناوله لتحولات القصيدة من «صفحات مجلة شعر إلى صفحات الفيسبوك»، فهو يعد بمثابة سيرة ذاتية صادقة لقصيدة النثر، يسردها لنا تحت عنوان «شجون الغريبة»، حيث تتبع الجيلاني بدأب لافت لكل تحولاتها بقراءة حداثوية غير مسبوقة، وأن التصفح بأمانة لمحطات غربتها عبر سبعين عاما من الترحال، على أمل أن يستقر بها المطاف على ضفة آمنة.

إنَّ أهمية أي كتاب تأتي من تأثيره في الوسط، وما يولده من لغط، ويثيره من أسئلة، وهذا ما فعله كتاب «شجون الغريبة «، فما ولّده في الوسط الأدبي العربي، سيظل شاخصاً في التحليل والكتابة، ولن يُمحى  تأثيره على شعراء القصيدة، وسيتزايد شغف المشتغلين بها، وسيكون بالتأكيد من المراجع المهمّة التي تغري الدارسين والباحثين عن القصيدة، وممكنات تواجدها كنسل شعري جديد سيأخذ مكانته ـ وهو الأبرز والأكثر حضوراً وفاعلية ـ  في يومنا هذا، إذ لا يمكن اغفال أو تجاوز دوره في الشعريَّة العربيَّة. 

سؤال راح يُراودني وأنا أهمّ  بقراءة الكتاب، ماذا يريد علوان الجيلاني أن يقدمه لقصيدة النثر في 436 صفحة من القطع الكبير.. تلك الصفحات الكثيرة التي شكلت كتابه هذا، والذي جاء بعنوانين رئيس وفرعي؟ 

أعتقد أنَّ الجيلاني حقق مبتغاه عبر غرابة العنوان الرئيس «شجون الغريبة» ودلالاته التي شدنا واستدرجنا إليه بما ذكره من دلالات الغربة، لوقائع عاشها في بيئته مسقط رأسه تهامة ـ غرب اليمن ـ  الزاخرة بموروث معين، اغترف منه ما مكّنه من أن يوصل لنا ـ وبلغة العارف ـ ما معنى غربة القصيدة التي استوحاها من عرف اجتماعي دارج، وكأن القصيدة امرأة وافدة لبيئة مغايرة، باعتقادي أن أجمل ما اغترفه الجيلاني لنا من موروثه هذا، هو التشبيه البليغ واللافت والمعبّر بين قصيدة النثر والمرأة الغريبة، فهو بذلك أنصف القصيدة وعرّف بها خير تعريف، وقدم لمعارضيها جواباً بليغاً وصادماً.

أرى أنَّ بلاغة التشبيه تحققت، إذ إنّ قصيدة النثر هي حقاً أشبه بامرأة فائقة الجمال من الطبيعي أن تمشي الهويْنا وتسير على استحياء، تمضي لوجهتها بسلام وسط ما تتعرّض له من حسد ووخز وتجريح.  غريبة تمضي بحذر خاصة وهي تعيش ـ مرغمة ـ في بيئة واحدة جنباً إلى جنب مع قصيدة العمود ـ تلك التي أشبهها بامرأة مسنّة، تتجمل بالتصابي، تتحدث بلسانها الطويل، وتسير بسطوتها الموروثة ـ وقصيدة التفعيلة التي هي أشبه بامرأة قصيرة مكتنزة، تشمخ بقوتها الناعمة وسلطتها المكتسبة!.

لهذا راح يخشى الكثير من غلبة قصيدة النثر وحضورها وتأثيرها على قصيدتي العمود والتفعيلة، خشية أن تنحسر مكانة القصيدتين، تلك المكانة التي يراد لها أن تظل شامخة، وفي منأى عن السطوة المتنامية لقصيدة النثر. لهذا انبرى النقاد ومنهم علوان الجيلاني على التعريف بشجون القصيدة وغربتها ومواجعها الغائرة في كتابه هذا الذي افتتحه بمقدمة وافية ومثالية للتعريف بالكتاب، وسبر غور العنوان، وشد القرّاء، وتلحقها أربعة أبواب هي: «أرض الشعر الجديدة؛ حين فتح العالم ذراعيه؛ في وضعية التوافق، لوان الفراشة ومذاقاتها»، دأب عبرها الجيلاني على تتبع بدايات قصيدة النثر من كتابات جبران وغيره، وصولا لـ «جماعة شعر» وما جاءت به هذه الجماعة والمتمثل بما خطه أنسي الحاج في مقدّمة لمجموعته الشعرية «لن - 1960»، وبمقالة علي أحمد سعيد «أدونيس» المعنونة «في قصيدة النثر، في مجلة شعر، عدد 14، 1960»، إذ عد الجيلاني البداية الحقيقيّة التي بشّرت بهذه القصيدة، تحقق بما ذكره في مقدمة الكتاب ص25، من «أن الشاعر أنسي الحاج لم ينشر نصوصاً نثريّة تحقق شروط (قصيدة النثر) إلا في العدد رقم 17 الصادر في يناير 1961، حيث نشر أربع قصائد، أما أدونيس فقد نشر في العدد 25 الصادر في اكتوبر 1961، عشر قصائد تخلصت جزئياً من هيمنة الوزن وضغط التقفية». وهنا أتساءل: هل أن نصوص البدايات المزعومة ولدت هكذا بلا وحي، وبلا تأثير بما يكتب في الغرب؟، بهذا الشأن أشرت في رأي سبق أن دوّنته على صفحة «الفيس بوك»، ربما نجد في طياته إجابة مفترضة عن السؤال أعلاه، «ليست هناك ترجمة للشعر، الترجمة تعني كتابة نص آخر، قد يخفق النص الجديد المترجم أو يتفوق في شعريته على النص الأصلي».  

وما يُعزز رأيي هذا ما تؤكده آراء الباحثين على أن ترجمة العرب للنصوص الشعريَّة الغربيَّة، وميولهم الواضحة والضاغطة لمعرفة وقراءة ما أنتجه الغرب من الشعر دفعا بقصيدة النثر العربية للظهور. وقرأنا في البدايات نصوصاً كثيرة كانت نتاج تأثير الترجمة وما كتب في الغرب؛ لذا حاول الكثير من النقّاد والشعراء العرب خاصة، البحث والتفتيش عن جذر لكتاباتهم، أو أصل في نصوص من التراث النثري هذا، علّهم يستظلون بها من هجير التُهم، يجعلون منها مرجعاً لهم، في شرعنة وتأصيل ما يكتبونه تحت مسمّى «قصيدة النثر» التي لا يراد لها أن تكون غريبة بلا أصل أو جذر.

في أبواب الكتاب الأربعة استحضر الجيلاني أكثر من ثمانين شاعراً عبر دراسات نقديَّة، قراءات فاحصة، مقاربات بعين راصدة، لما كتبه هؤلاء تحت مسمّى قصيدة النثر بمراحل تحولاتها. اللافت أنَّ كلّ واحد من هؤلاء الشعراء كتب قصيدة نثر عربيَّة بامتياز تشير إليه وتعرّف به، وتعزز دور وفاعلية وتأثير قصيدة النثر بوجه عام في الشعريَّة العربيَّة. 

ففي الفضاء الأزرق صار مسموحاً للكل بالكتابة والنشر، لهذا من الطبيعي أن نقرأ الغث والسمين، وهنا يتجسّد دور الشبكة العنكبوتيَّة ومساهمتها الفاعلة في تلك التحولات، وعلى النقاد الفرز والتقييم، فما يكتب عبر صفحات «الفيس بوك» يشير إلى أنَّ هناك من يكتب ويدرج كتاباته عبثاً تحت مسمّى قصيدة النثر! وهناك من لا همّ  لهم سوى أنْ يضرموا النار في الجمهور بقوافيهم اللاهبة التي تقطر الجمر وتنثر الرماد.

لكن، هناك بالمقابل شعراء لا يركبون القوافي ولا يسخّرون الوزن، تراهم يزلزلون- بالإيقاع- الدهشة في الأرواح، يهزّون المشاعر، يومضون بالشعر من على بعد آلاف الكيلومترات، على خارطة الشعر الممتدة، يكتبون الشعر بلا حدود، بلا معوقات، بلا خوف أو خشية من قداسة أو تحسباً لمرجعيَّة ما، الشعر فوضى الروح، الشعر ارتباك، الشعر وحشة، الشعر سكينة، الشعر ملاذ، الشعر هيام، الشعر رحلة لا تنتهي القصد منها اقتفاء أثر الضوء، الشعر شلالات أسئلة بلا أجوبة، الشعر رفض، الشعر خروج صادم عن المألوف، الشعر هو تلك الكلمة الطيبة التي قالوا عنها أنها صدقة!.