السّرد ما بعد الحداثي.. مصائر وتناقضات

ثقافة 2024/03/04
...

  د. سمير الخليل

تتجلى تمثّلات السّرد ما بعد الحداثيّ في رواية “العروج إلى شيراز” لعباس لطيف، الصادرة عن دار جلجامش- بغداد 2024، في الظواهر الفنية التي وظفها في تشكيل البنية السرديّة، ومن خلال تعدّد مستويات النسق التعبيري ووجود توليفة سردية جمعت عناصر المبنى الحكائي المنشطر والمنفتح على ثلاثة عوالم تتنافذ وتتآصر فيما بينها، وهي تجسّد سيرة وأحداث ترتبط بثلاث شخصيّات شكّلت أبعاد السرد وتحوّلاته الذي يقدّمها على الرغم من بُعْد المسافات المكانية والزمانية والتناقضات والمكابدات التي تجمعها وتحوّلها من دال منفتح على دلالات وإشارات مشتركة. لقد تمكنت الرواية من أن تمزج وبشكل فنّي متقدّم بين استلهامات كشفت خصائص هذه الشخصيّات الرئيسة والثانوية وفق رؤية اختزلت المضمون والمحتوى الكلّي وتنويعاته الواقعيّة والتعبيريّة والرمزية والتأويلية ارتكز السرد وفق تمثّلاته المتقدّمة باستلهام سيرة الشاعر الإشكالي والعرفاني حافظ الشيرازي وحياته وصراعه مع مجتمع القرن الثامن الهجري وقيمه الروحية والصوفيّة والإنسانية المتضادة مع قيم السلاطين والحكّام ووقوفه ضد هجمات وهيمنة التتر، وكل الغزاة الذين استهدفوا مدينة شيراز التي ولد فيها وعمل خبّازاً ومعلّماً ومتصوّفاً ولم يغادرها إلاّ مرّة واحدة وما حدث له من خطوة مع الملك جمال الدين (أبي إسحاق) من صداقة غريبة بين الحاكم والشاعر الصوفي المستنير للجدل، وكذلك علاقته الملتبسة مع الملوك والسلاطين الذين أتوا بعد مقتل أبي إسحاق الذي اختزل صورة الحاكم العادل المتنير المحب للأدب والجمال والشعر. وكانت مكابدة الشيرازي مع الملك (مبارز الدين) الذي اتّسم بالقسوة وكثرة المحرّمات والتابوات كنوع من استغلال المنطق الفقهي للسيطرة على أهالي شيراز، وبعد مقتله على يد ولديه شجاع ومنصور، فضلاً عن قصّة عشق الشاعر لفتاة جميلة هي (شاخ نبات) وإشكالية العلاقة معها فهو ينظر إليها كفكرة للجمال وهي تنظر إليه من منظار اجتماعي مما جعل الافتراق بينهما محتماً عند ذهابه بعد ذلك إلى مكان قصيّ عبارة عن منفى في شمال شيراز هو (باب كوهي).
تنقسم الرواية وفق هذه البنية، وهندسة المسار السردي إلى ثلاث وحدات تعبيرية، الأولى هي رواية (ترجمان الأسرار) المخطوط الذي عثر عليه الجندي العراقي جلال شاكر في أحد المواضع في معركة نهر جاسم 1987. أمّا الوحدة الثانية فمتمثّلة بحياة ومعاناة الجندي جلال نفسه، وهو يساق إلى الحرب بعد أن أنهى دراسته في كليّة الآداب وطبيعة المكابدة مع عشقه لزميلته ليلى التي يستحوذ عليها فيما بعد الضابط حميد بناءً على رغبة أخيها رياض، الذي يعاني من عُقد سايكولوجية، والوحدة الثالثة تمثّلت بشخصية الجندي الإيراني (مير قرباني) الذي كتب رواية (ترجمان الأسرار) وهي استلهام لسيرة الشاعر حافظ الشيرازي وشخصيّته وصراعاته ونهايته، وبذلك قدّمت الرواية ظاهرة (البوليفونيّة) تعدد الأصوات، وقسّمت إلى فصول تقدم هذه الشخصيات نفسها وهي تفصح عن ذاتها بدلالة الآخر. ولعلّ وجود المخطوط شكّل البؤرة المركزية التي تجمع بين هذه الشخصيّات المتباعدة، وواقعها الإشكالي الملتبس وسار السرد متعدّد الأصوات والأبعاد وفق نسق التوازي وهو يرصد التفاصيل والتحوّلات، والاستلهامات ويتابع الأحداث والمصائر والتناقضات، وعكس المخطوط – الرواية التي كتبها (مير قرباني)- استثماراً لتقنية (الميتاسرد) وأصبح المخطوط هو المحرك والجامع ونقطة التقاء الشخصيّات، ومثل مرجعيّة قيميّة ودلالية وسايكولوجية لا ترتبط بسيرة الشيرازي وحده.هناك مع الظواهر الفنيّة المذكورة يظهر الأداء التعبيري للّغة، لما فيها من تعدّدية الصوت، فلغة رواية (ترجمان الأسرار) تختلف عن سيرة وتداعيات ولغة الفصول التي قدّمت الشخصيّتين الجندي الإيراني والعراقي عبر سر ذاتي بضمير الأنا، إذ نلحظ استهلال رواية (المخطوط) (ترجمان الأسرار) تبدأ بهذا التقديم للشاعر وهو يصغي لمكابدات أمّه:  “لم ينم طوال الليل، كان يصغي بكل حواسه إلى صوتها وهمهماتها التي تقطعها العبرات، ويعلو النشيج والأنين ليخنق أنفاسها، استبدّت به مشاعر جامحة، وتمنّى لو تمكّن من إزاحة كل هذا الحزن الذي يثقل كاهل أم عطوف وثكلى” (الرواية: 7). تتخذ الرواية من حدث فقدان المخطوط من بين يدي (مير قرباني) وعثور الجندي جلال شاكر عليه المنطلق السردي لبناء عناصر الحكاية، ويبقى المخطوط يعبّر عن وجوده، ودلالته بالنسبة للشخصيتين، وقد أثّر الحدث سلباً وإيجاباً على كلا الشخصيتين، ونلحظ تناظراً بين حياة هذين الجنديين اللّذين يتقاتلان في جبهة واحدة متناظرة لكن المخطوط، وحقيبة (قرباني) كانت الدلالة الرابطة بين عالمين متناظرين فهناك عشيقة (جلال)، (ليلى) المحاصرة برغبة الآخرين، وهناك المعلّمة (بهار) زوجة (مير قرباني) التي تعاني غيابه في الحرب وتنتظره مع أبيه وأمّه، وهي فتاة بارعة الجمال وتعمل معلّمة في إحدى مدارس شيراز.