يوم بابلي

ثقافة 2024/03/05
...

 طالب كاظم


ما أن يلتقط تمتمات عرافة المعبد البتول، نصف العارية، التي انشغلت بلملمة شظايا الرؤيا التي داهمتها فجأة، وهي تجثو بخشوع على ركبتيها في محراب الإله تتطلع بقلق في نيران جرن المذبح، حين تجسدت في دوامات دخان المباخر ومساقط ضوء الشمعدانات تقاطيع الإله الممجد، كانت تضيع في هذياناتها فيما دوامات دخان ازاهير الخشخاش تملأ خياشيمها بعطرها النفاذ الذي يشبه رائحة اللبان المحترق، أنها الرؤيا التي تنتظر، عندما تتجسد لها قوام الإله الهلامي المرتقب، حينما تعامد الكوكب السابع مع مدار نجمة اينانا التي تلألأت في الافق،  سيسرع كبير كهنة الايساكيلا بخطواته المتعثرة إلى وضع جمرات الموقد المقدس في مبخرته اليدوية، ممسكا بيده اليسرى طرف سلسلتها الفضية، وهو يطرق البلاط المزجج بطرف عصاه الرفيعة المزينة برأس وعل نحاسي، حيث ينتظر عند بوابة الهيكل رهبان معبد الايساكيلا بصمت وخشوع كبيرين، برؤوسهم الحليقة وأرديتهم الكتانية الناعمة، ايماءة الكاهن وإشارته التي تعلن لحظة البدء بتحرير ظلفتي بوابة مخدع الإله من المزاليج والاقفال البرونزية، إنها الليلة الأكثر قدسية، التي ستشهد خروج الإله من قدس اقداسه ليبارك مدينته العتيدة الماجنة، منتصبا في صومعته المحرمة، لا أحد يستطيع لمسه سوى كبير الكهنة وعرافة المعبد التي لم تدنس وعاهل بابل، لا أحد يستطيع سواهما، لمس طيات ارديته الناعمة.

في لحظات الضوء الأول وهو يشق طريقه صعودا في الأفق، سيخرج الإله في عربته الشمس، يتفقد رعيته الذاهلة، التي تنتظره على طول الطرقات التي سيمر بها موكبه المقدس ما أن حل غروب ليلتهم الماضية، إنها المدينة التي ستلتقي إلهها المبجل كلي القدرة مردوخ. 

في الحرم المقدس، العاهل بنفسه سيحل عقدة رباط العيد الماضي، بينما الكاهنة الكبرى تترنم بتراتيلها، فيما الكاهن الكبير يحوم بمبخرته حولهما، كما يمكنك سماع رنين القيثارات الناعم يتردد في الرواق الطويل نصف المعتم. 

بوابة قدس الاقداس، تتكون من ظلفتين هائلتين، من الأرز المزين بتعريشات من ابنوس بلاد السند، والمصفحة بالبرونز ورقائق الذهب، حيث ينتصب مردوخ، كلي القدرة، في نهاية الممر المعبد بالآجر المزجج وبجدرانه المزينة بالمنحوتات التي تمثل الإله الثور ادد اله الزوابع وتنين الأبدية مردوخ، رهبان الهيكل المقدس، سيحاولون لمرات عديدة زحزحة ظلفتي بوابة قدس الاقداس الهائلتين، غالبا تكون البوابة عالقة في مكانها بسبب صدأ المحور النحاسي الذي يسند ثقلها.. إذ مرت خمسة أعوام منذ احتفلت المدينة بالاكيتو الأخير، كما أعد مروضو الخيول قطيعا من الخيول الاصيلة، ينتقونها ببياض ناصع والآخر بسواد لامع، الاختيار نفسه يتعلق بالخير والشر كما يتعلق بالزمن الذي يمضي إلى وجهته بنهاراته ولياليه، مزينة بالفضة واللازورد، لم لا فهي الخيول التي ستجر بخطواتها المتناسقة عربة الشمس التي ستحمل تمثال الإله، إنها سفينة الخليقة، التي تجوب السماوات في رحلاته وهو يتفقد عوالمه القصية، مئة فتى بتول، نذروا انفسهم لمهمة جر سفينة الإله العظيم، سيسمح لهم بذلك طالما أقسموا عند مذبح المعبد المهيب، بأنهم لم يعاشروا النساء، إذ تشدد الكهنة في طهر كل شيء امعانا في القداسة، لا يمكن لفاجر أو فاسد أن يجر مركبة الإله المقدسة، بعيدا عن تزمت الكهنة، ستكتشف أن فاجرين كثر ومنافقين أكثر، تسللوا إلى تلك المئة، وجروا عربة الإله الصامت المهيب في أعياده السابقة، دونما أن يفطن اليهم أحد، برغم قسمهم الغليظ الذي رددوه بين يدي كبير كهنة ايساكيلا.

 لا أحد يستطيع تحمل وطأة غضب مردوخ، فيما لو جر تمثاله أحد الزناة، على أي حال نكتشف إن الزناة كثر، ولا يمكن عدهم ويتناسلون كالجرذان، تبدو معها تحذيرات الكهنة بلا معنى، كما في قولهم المعتاد: لا يمكن لفاجر أن يجر مركبة الإلهة المقدسة دونما مصيبة ستحل على رؤوسهم، عقابا على تماديهم وتدنيسهم طقوس اكيتو المقدسة، ولكن، بعيدا عن الكهنة، ستجد فاجرون كثر، تسللوا إلى تلك المئة، وجروا عربة الإله الصامت المهيب في أعياد قديمة دونما أن يفطن اليهم أحد، برغم قسمهم الغليظ، الملفت للانتباه، أن أي فاجعة أو مصيبة لم تحدث بسب خرق تلك البنود القاسية التي تتطلب انسانا كاملا، الأمر مبرر تماما طالما عرفنا ألا أحد يستطيع العيش بلا محضيات بابليات سامقات القامة أو عبرانيات يرطنّ بلكنات غريبة، ينتظرن رواد حانات بابل المشرعة طوال ساعات الليل حتى الفجر. 

كما يحدث في كل معبد.. الايساكيلا ليس استثناء برغم تواجد مردوخ نفسه في صومعته المحرمة، ستجد أن بعض الكهنة تخلوا عن تلموديتهم لخدمه اله بابل الممجد، كما أهمل أخرون بتولية بعضهم، كما تقبل قرابين وتقدمات الافاقين واللصوص، مشترطا عليهم أن تكون قرابينهم بالشيقل البابلي المسكوك في بيت عاموني العبراني، عاموني هذا، صيرفي محترف ومحل ثقة رجالات المعبد، لأنه يقوم بتدوير موبقات كبير الكهنة، بإعادة تدوير الشيقلات التي يسرقونها والتي تتمثل بنهب خزينة المعبد بين الحين والآخر، بالواح تذيل بختم اللازورد الاسطواني، الذي يحتفظ به  كبير الكهنة في سلسلة تطوق عنقه الغليظ، الالواح تلك، تبرر ذلك النهب بمبرر الشروع بأعمال الترميم، وهي أعمال تبدو ابدية ولا تنتهي أبدا، أو شراء البخور من بلاد السند واللبان من بلاد بحر الجنوب العظيم،  والبضاعة هنا بمئات التالنتات، لك أن تتخيل تلك حجم تلك الصفقات إذا ما عرفت أن التالنت الواحد يعادل وزن اربعة رجال ناضجين.

اولئك الكهنة، لا يخلو أي معبد بابلي شيد على طول النهر، منهم، بالطوب المحروق أو باللبن المخلوط بالقش، يتقبلون الحلي الذهبية والفضية والمجوهرات الثمينة أيضا كتقدمات وقرابين لنيل شفاعه الإله، أما الذي يحاول كسب رضا الكهنة، بمعزاة أو كبش أو شوال من الحمص أو الدخن، فأنه سينال عقابا شنيعا، وقد يعرض نفسه للتعذيب في قبو المعبد المعتم الذي يستخدم كصومعة سرية لاغتصاب المتبتلات اللواتي يمانعن مضاجعة الكهنة العجائز بعد إرغامهن على استنشاق دخان زهرة الخشخاش.

هناك لصوص ومرتزقة، بل أن يهودا انخرطوا في لعبة الجر المقدسة، لنيل مباركة الإله الممجد، بينما الإله المبجل كلي القدرة، نفسه، يبدو غير مبال بما يحدث حوله من موبقات وفضائح، فهو صامت ومهيب ولا يرف له جفن أو أي ارتعاشه تختلج في وجهه الذهبي 

الجامد.

موكب عرافة معبد «الايساكيلا» المبجّلة قارئة الاقدار والمتبتلات العذروات، خادمات العرافة الكاهنة، يتقدم رتل المئة صبي الذين يؤودون نذور اهاليهم، بينما الصمت يطال الأجنة، التي تجف في عراء المعبد الخارجي، الخربة المهجورة التي تتلقى قمامة المعبد، بقايا ولائم الكهنة ومريديهم، أثرياء بابل، ملاك المصارف والمقاطعات، وقادة العشرة الاف، الفناء المهجور الذي يحيط بسور المعبد الشمالي، باستثناء الكاهن وعرافته الحسناء، لا أحد يعرف على وجه اليقين معالم خرائط المعبد ودهاليزه السرية، الأمر برمته مبني على التكهنات ليس إلا، فالشمالي قد يكون شرقيا أو غربيا، لا أحد يستطيع تفسير ذلك الأمر سوى بكونه لغزا الهيا يفوق معرفتهم وإن كانوا منجمين وسحرة ومشعوذين. 

مهمة التخلص من الأجنة الصغيرة، التي لم تبلغ بعد شهرها الثالث، أمرا اعتاد خدم المعبد القيام به بين حين وآخر، فهي ليست سوى مخلوقات هلامية حمراء اللون، بسبب شكلها المريع، تبدو كمسوخ، لإنقاذ الكهنة من الفضيحة التي قد تطالهم فيما لو اكتشف أحدهم أن أغلب المتبتلات العذروات هن في الحقيقة، لسن سوى محضيات، لتمويه بطونهن المنتفخة يعمدن إلى دس الأردية السميكة برغم الحر الشديد. 

طالما ليل المعبد طويل ومعتم وتتصاعد في أروقته وممراته دوامات دخان الخشخاش وتندلق كؤوس النبيذ القوي فوق موائده المدنسة.

كما لو أن الإلهة عشتار نفسها، تتسلى بإغواء كهنة مردوخ المبجل على تدنيس سيرتهم بالخطايا، ولكن اشتهاءات الكهنة ورغباتهم ليست بحاجة للإغواء فهم لا يمنعون من مضاجعة المتبتلات صغيرات السن اللواتي يتقدمن موكب المئة فتى، ستكتشف أن بعضهن يعانين من الشعور بالغثيان، بسب من سمندل أو شرغوف ما يسبح في أحشائهن، المتبتلات بأرديتهن الكتانية  السميكة وحاملات المباخر التي تنفث دخان زهرة الخشخاش، والشمعدانات والقيثارات المزينة براس العجل الذهبي، والدفوف والنايات وعازفات المزامير.

غالبا يستعين المعبد بالعبرانيات المحترفات في نفخ المزامير والرقص، في قلب الموكب ينتصب الإله الهائل في سفينة الخليقة، بينما الفتيان يجرون بحبال القنب، التي شدت إلى اكتافهم بينما تدلت اذرعهم بلا حراك على بطونهم الضامرة، إذ لا يحق لهم لمس الحبال المقدسة، كل شيء هنا مقدس، برغم امتعاضي من الملل بسبب تكرار الكلمة السقيمة، بينما موكب صبية المعبد، وهم بمنزلة خدم كهنة ورهبان الهيكل، وبسبب من دوي الابواق النحاسية الهادر الذي يشبه صوت الرياح ورنين القيثارات والمزامير والمباخر التي تنفث دخان المخدر الذي يأتيهم كهدايا من بلاد فارس، يعمد اولئك الصبية، في فورة من الاثارة والذهول إلى خلع ارديتهم  الطقوسية، بينما الصخب العنيف المدو يتصاعد، يترنح خدم المعبد، عراة  بلا أي أردية تستر عورتهم، في لحظة من الوجد والهذيان.

عبر الحشود الهائلة يتعالى صراخ النساء بعد أن اخفقت محاولاتهم لمس عربة الخليقة للتبرك بالإله بينما اغمى على الفتيات صغيرات السن المحشورات بين أجساد تنضح العرق والفحيح، يزداد صوت الصخب قوة كما تتعإلى الهمهمات كلما اقترب الموكب من نهاية طوافه، هناك فتيات غمسن مناديلهن البيض في دماء المتنسكين الجدد للتبرك بها، الذين ختنوا انفسهم،  بينما نساء في منتصف العمر تلقفن الجلد المتغضن المقطوع واحتفظن به كتميمة املا في الخصب والولادة.

انتهت محنة صبيان المعبد الذين تلقوا تعاليم الكهنوتية في معبد الإله العتيد طوال سبع سنوات مريرة من الصوم والتنسك، ها هم يكرسون وجودهم ككهنة في معبد مردوخ بمرتبة قديس، يحق لهم وحدهم ولوج قدس الاقداس كخدم للإله الاعظم نفسه، بينما الطرقات تستعيد انفاسها شيئا فشيئا بعد ظهيرة من الخشوع والترقب، ها هي المدينة التي تتحدث بألف لسان تسترد ثقتها بنفسها كونها نالت شفاعة إلهها 

الممجد.