جاكلين سلام
لماذا الشعر؟!
لماذا تكتبين الشعر في الوقت الذي تتنكر له حتى دور النشر والقراء العرب؟
أكتب كي أقول للعالم، أنا أنتمي إلى جرحك أيها الإنسان بلغتي وحواسي. و إذ أطرق باب الشعر ، أهرب من كل هذا وأتحايل على الواقع والزمن الذي نعيش فيه ما يفيض عن مقدرتنا في أن نكون بشرا عاديين، أصحاء، يحلمون بالفرح لوحدهم، لكيانهم الخالص، أو يعيشون إلى جوار أبنائهم وبناتهم، أو يعيشون قناعة العيش والسلام الروحي حين يصبح البيت فارغاً من الأولاد الذين يطيرون إلى أحلامهم المنفصلة عن بيت الأم والأب، أو مكتظاً بالأشقاء الغرباء عن بعضهم- روحاً وشعوراً.
*
أكتب الشّعر كي أقول للحياة أحبك بلغة ما وراء الكلام وما بين الخيبة والنقصان. أكتب الشّعر كي أقول لي، يا للعماء. هذا الوقت يليق بكتاب عن عشق الحياة الذي جاء مغمورا بشهوة ارتكاب القول والفعل، أو بالأحرى اشتبه به وعليه ولم يصل إلى جرة الماء كي يرتوي ويزدهر على عتبات الغياب والحضور الهش القابل للتحقق.
*
الشّعر كي أقول أن الطرق التي يموت فيها الإنسان المعاصر ليست شعرية وليست انسانية حليمة. أنت تعلم ذلك يا صديقي ولكنك تكره الشّعر الذي ينسيك هذه الحقيقة ولو لوهلة.
والشّعر كي أقول بأنني أكره الصواريخ والطائرات الحربية ونشرات الأخبار التي يكثر فيها القتلى وبطريقة ليست كنشرات الأخبار الطارئة.
ولا أريد أن أحشو قصائدي بالموتى.
القتلى في كل مكان كلما جلست أمام التلفاز ستطالعك وجوههم الممزقة.
لقد استطاع بيكاسو، أن يرسمهم في لوحة «غرنيكا «بأفضل من أي قصيدة وشعر.
الشّعر بديل الجمال المستتر والمكسور.
*
لماذا الشّعر؟
الشّعر كي أجعل من الدمع عناقيد كريستال أرصع بها عنق الكون، أو أفرطها كحبات الرمان بين شفاه الحب. الشّعر كي أجعلك أنتَ الكون البديل الذي أرصع فمه بالقبلات وأصابعه بخواتم الضوء والحنان.
الشّعر كي أعيد ترميم الوجع الكوني وتنقيته والحنو عليه كي يعود إلى المجهول بنبرة سعيدة يصفّر في الطريق ويضرب بقدمه كل حجرة في طريقه وهو يبتسم أو يبكي.
*
لماذا تكتب امرأة الخمسين من العمر عن الشّعر؟ لماذا تكتب امرأة في الخمسين عن الحب؟
عفوا، لماذا تكتب أنت يا سيد تكتب في آخر الليل ما ليس شعرا، ما ليس حبا، ما ليس إلا طريقة بدائية في البكاء، في الحنين وفي الخوض في مستنقع الأيام من شرفة روحك التي تطل على الله وعلى قلبك المقفل بقفل، على قلبك المكور في صدرك كحمامة أسيرة؟
أنت مثلي تكتب حكاية كلما أردت أن تطير أو تختفي من وجه الساعة، تكسر إيقاع الصمت وتتفرج على آلام روحك وهي تنزف. لا بأس أنا أيضا أفعل ذلك مع القصيدة. أقصَ أجنحتها، أستعير أجنحتها، أقص منقارها، أقصقصها، ألبس مخيالها، وأرى الموت يسبح في قعرها دون أن تستطيع الموت بجدارة ولا التحليق بكل جدارة.
أنتَ تكتب لأنك تستطيع، وأنا أكتب لأن الشغف سيدي نكتب كي نتناوب أحياناً على تمثّل مقام الضحية، نتعلق بأثواب خيباتنا، نتعلق بوحشتنا وانكسارنا، نتعلق بفكرة أننا نقدم أعمارها للوطن، للأهل، للأولاد، للأحفاد، وماتبقى سيذهب معنا إلى القبر حين لا عيون ولا آذان ولا قلب ولا نبض.
لا تحزن يا صديقي، سيقرأون بعضا من أوراقنا المنشورة ثم ينصرفون إلى الكتب الجديدة و «الترندات» المشار إليها عبر منصة: تيك توك، فيسبوك، تويتر.
*
لماذ الشّعر؟
كي أقول لنفسي لماذا تتكلمين عنه وعن الكون وأنت أصغر من نملة في هذا الفضاء؟
ألا ترين المتربصين بالكلمة كلما شهقت ورفعت قامتها في الفضاء.
أنت تعرفين أنهم يمزقون ثوب القصيدة ويريدون البحث فيمات حتى الثوب الشّعري، ليس عشقا بالشّعر وبواطن الكلام بل رغبة في سد جوع وفضول. أو لأن الشّعر، لا يقدم نفسه بعراء للقارئ.
*
«في البدء كانت الكلمة» أو في البدء حدثت الخطيئة ثم جاء العقاب. كان لا بد لحواء أن تشارك آدم بتفاحها، بالتفاح الذي لم يكن ملك أحد. وكان لا بد من أن تنقلب الجنة إلى جحيم.
والآن، لا بد من حواء وتفاحة تعيد لآدم فردوسه المفقود، هذا على فرض أن هناك فردوس أو جحيم سوى اللحظة، الآن. اللحظة التي تحيينا وتقتلنا بكل فيوضها. وإذ يكون فينا من الجنة أشجار، وفينا من الجحيم نار، وفينا من الأرض تراب وهواء، وفينا من أشكال الشّعر ما يكسر كل موازين الواقع والخيال كي يصل إلى جرعة تأمل وتصورات لا تخلو من الأحجيات.
*
بورخيس والتفاحة وصنعة الشّعر
في كتاب يضم 6 محاضرات عن الشّعر، ماهية وصنعة وتحليلاً صدر عن دار المدى 2007، ترجمة صالح علماني، بعنوان «صنعة الشّعر»، يتحدث بورخيس باستفاضة عن تاريخ القصائد وبداية نشأتها في التراث الانكليزي، ويوثق لأول فلاح كاهن كتب ترانيمه أو ألقاها وحفظها الناس من بعده. استوقفتني قول منقول عن كاهن يتحدث عن التفاحة والتذوق والنهكمة ويقارن ذلك بالشّعر وبما معناه: أن التفاحة بحد ذاتها تفاحة لا طعم لها بمعزل عن علاقتها بشفاه الإنسان الذي يتذوق تلك النكهة.
ذلك التفاعل بين ما يفرزه اللسان وما تحمله التفاحة من ألياف ونكهات يصنع تلك الخلطة الخاصة، وكذلك الشّعر، ميت وبلا نكهة، إن لم يتذوقه القارئ الذي لم يجفّ ريقه والذي لم يفقد الحساسية لتذوقه كل شيء عدا الشّعر.
*
سيأتي عيد الشّعر في 21 مارس، وهو عيد الربيع أيضاً وعيد الأمهات في تراث بلاد عديدة شرقا وغربا، وستقام الولائم الشّعريَّة والأمسيات والبيانات والخطابات، وسيدعى إلى المحافل من يستحق ومن لا يستحق لقب شاعر، وسيبقى السيد الشّعر أكبر من خيبتنا وكل ما كتب. ومن غير اللائق في عيد الشّعر أن نثرثر من جديد على جدوى وأهمية قصيدة النثر وشرعيتها.
شاعرة سورية كندية