مظفر لامي
تذكر إنعام كجه جي في مقابلة معها أن العراق هو الداء وهو الدواء، و صعب أن يشفى أبناؤه من جروحه العميقة. لذا تواصل هي وجميع الكتاب العراقيين المغتربين الكتابة عن الوطن بتأثير من هذا الهم المتجذر الذي لا يفارق صاحبه رغم البعد في الزمن والجغرافيا. ومجموعتها القصصيَّة (بلاد الطاخ طاخ) تعكس في أغلب قصصها هذه المهمة الموجعة التي تضع الكاتب أمام تحد للتوفيق بين الرؤى الذاتية التي تكون في بعض الأحيان قهرية، وبين الأبعاد الجمالية التي يتطلبها السرد القصصيّ.
والقارئ يلمس قدرة الكاتبة على التحكم بهذين المؤثرين اللذين لهما حضور طاغ بمستويات مختلفة في أعمال كتابنا داخل وخارج البلد. ويضع تصورا واضحا، من خلال التنقل بين قصصها، عن التنوع الثقافي والمعرفي، وتراكم الخبرة في مضمون وشكل اللغة التي اكتسبتها الكاتبة من العمل الطويل في الصحافة. وهذا الوضع المريح في تلقي عمل مميز كهذا، يتيح للقارئ تأملا يوازي صدقه ورصانته، وفرزا لأطر وعناصر مروياته بما يتناسب مع رحابة أو محددات الذائقة التي لن تكون بالضرورة متماثلة.بدءاً نواجه في تناول أدب الاغتراب مسألة شائكة اختلفت فيها الآراء تبعاً لاختلاف التجارب من بلد لآخر، فمن يذهب مع الرأي القائل إن الابتعاد عن أرض الوطن يؤدي لتعظيمها وتجميلها، سيجد ما يناقض ذلك في أعمال أدبية كانت بمثابة رثاء وتأبين للوطن، على حد تعبير الكاتب الكوبي (جيرمو إنفانتيه) واصفا تأثير المنفى على آخر رواياته عن هافانا. ومن جانب آخر ربما نجد في روايات معينة لماركيز ويوسا وخوليو كورتازار تصور مختلف عن أوطانهم يتجاوز تعظيمها أو ندبها.كيف يبدو الوطن إذن، في المجموعة القصصيَّة التي تقدم في عنونتها كنية صوتية له تشير لأصوات البنادق؟ وهل نلمس في هذا التوصيف موقفاً نجد له أصداء في بناء القصص وانتخاب شخصياتها، وفي مزاج سردها؟
يشير فهرس المجموعة لاثنتي عشرة قصة، سبقته الكاتبة بإهداء لكل قارئة أو قارئ يتعرفون على أنفسهم في شخوصها أو أحداثها. وهي إشارة تبدو متماهية مع فعل الكتابة الذي يضع مهمة التعرف على الذات كأولوية. فالقصص بمجملها لا توحي بالتزامها الصارم بتخطيط مسبق حتى لو وجدنا قرائن لذلك في البناء والنهايات. وبدلا من الجري خلف أملاءات الخطاب، الرمز، التجربة، الذاكرة.. الخ، كان إيقاع الروي منسجما مع الطبيعة التأملية لضمير المتكلم الذي تروى بها أغلب قصص المجموعة. والقارئ عند هذه الرؤية التي تنتخب الصوت الأكثر قربا من الكاتب، يكون في العادة أكثر حذرا وربما متوجساً من ضيق المسافة، الانغلاق، الاستغراق في التداعيات الذاتية، الذي يصاحب بعض التجارب المماثلة. ودون شك، يضاف في أدب الاغتراب مؤثرا آخر يتعلق برواسب الاقتلاع من الجذور التي تجد لها فرصة للظهور عند الكتابة عن الأوطان.
في المجموعة أربع قصص هي، مرآة كرداسة، صورة المرحوم، مرارة، عمياء ميلانو، نرصد فيها تحررا من الالتزام المضني الذي يهيمن على القصص الأخرى، وهي في تناوبها معها توفر فرصة للذهاب والعودة بين البعد الذاتي الخالص الذي يتأمل بروية في الأحداث والتجارب اليومية، وبين هم الوطن وتداعياته بكل ما يمثل من تعقيد في التمثل وفي التناول. وبالتأكيد لابد أن يصل للقارئ من هذه الثنائية إشارات متباينة في نمط الاشتغال والتوظيف. في قصة مرآة كرداسة مثلا لا نشعر بشحنة ضاغطة على الحدث ولا ترميزا موازيا للعناصر، فالمرآة التي تحتل مكانا مرتفعا، تكتسب بعدها التأويلي من تموضع الشاهد إزاء مرور الزمن ( مازالت مرآة كرداسة تتابع أحداثًا جساما تنعكس على فضتها فتزداد إشراقاً. أداريها وأمسحها بماء الورد. أؤجل يومًا تغضب فيه وتكفهر وتقلب لي وجهها. ) وفي قصة ( صورة المرحوم ) تكون مهمة الروي مكرسة لجمع الوقائع التي تلقي الضوء على تماثل التجارب المخيبة، وهو مسار يمرر تصور أحادي عن الأحداث، لكنه لا يقل تأثيرا وأهمية عن قطبي العقدة وحلها. وفي قصتي مرارة وعمياء ميلانو يكون الحدث مدخلا ومسارا موازيا لحوار ذاتي عن الهوية وهموم الاغتراب ( لا أدري كم ساعة نمت. سبحت في فضاء آخر. يبدو أنني مضيت إلى البقعة البعيدة التي نبعت منها أول ما نبعت. بيت تحيطه حديقة ونافذة تحرسها نخلة ).نقتبس من إدوارد سعيد التوصيف المختصر التالي (المنفى والذاكرة مفهومان مشتركان، وما نتذكره والطريقة التي نتذكره بها هي التي تحدد طبيعة تطلعنا للمستقبل) في أغلب القصص التي تكتب عن الأوطان لابد أن نصادف أصداء لهذه المقاربة، والاختلاف بين التجارب يكون خاضعا في الغالب للمعالجة الفكرية والفنية التي تفلتر حدة الخطاب، وتستبدل الاسقاطات المتشنجة برؤية موضوعية مفسرة. في قصص بلاد الطّاخ طاخ، مسدس من ذهب، المترجم رجب، نخلتي، تبتكر الكاتبة الحدث، المفارقة، المكان بما يتلاءم مع سعيها لكشف النوازع الذكورية لشخصيات تمثل بصفتها الرمزية. فالشهوة للسلطة تقابلها حفاوة وتبجيل للسلاح المبارك من الحاكم، ونرجسية الذات المفرطة عند المترجم تماثل لامبالاة وطموح السياسي المعارض. لكن المغايرة تحدث في قصتي الكاميرا الأولمبس وعهود وحدود، حيث تنسب الأحداث صراحة للذاكرة، أي أن التجربة المعاشة أو المتخيلة تخضع لسياقها التاريخي، وتستمد موقف الإدانة فيها من استدعاء تجارب الماضي المريرة مع تداعياتها الآنية على شخصياتها. ولكسر نمطية اجترار عيوب الوطن أو رثائه، اختارت الكاتبة وضع لمسات المذكرات اليومية التي تدرج الرؤى والانطباعات الشخصية على الأحداث (أعرف نفسي في مواقف هزيمتي. أرفع علامة المنتصر وأنا أمسح دمعتي بردني).
تطلعات الكاتبة لموطنها الأول لم تستثنَ هي الأخرى من أوجاع الذاكرة، فالبديل الذي يكافئ انقطاع الاغتراب لابد أن يأخذ شحنته المحرضة من التطلعات المجردة لتجاوز سكونية اللحظة الحاضرة. وهذه المجابهة تقدم في قصتي عارية في الوزيرية والخوافات في سياق احتجاج يتخذ من السمة القصديَّة في أحلام اليقظة سبيلا لكسر التابوات والانعطاف بالأحداث نحو نهايات ترسم معالم صورة مستقبليّة متخيلة.