خطوطٌ على لوحة جرداء

ثقافة 2024/03/05
...

 باسم عبد الحميد حمودي


اخترت من تجارب الروائي  وكاتب القصة القصيرة علي خيون تجربة قصصية واحدة كنموذج للأداء في فن القصة القصيرة.

 وتعد القصة القصيرة كفن لدى أوكونور وأو .هنري وموباسان وصولا إلى اليوسفين الشاروني وأدريس فن الأداء الدرامي الأصعب من فن الرواية الذي يمكنك من الكتابة براحة المقتدر ووعيه، مع احترام التكثيف في رسم الشّخصيّة (الكاركتر) داخل القصة القصيرة – الأقصوصة، ويشذ عن هذا قصص الومضة أو (ق. ق. جدا) والتي تعتمد الضربة السريعة أدائيا والتي يجيد صياغتها رهط من  المبدعين في مقدمتهم زكريا تامر في (تكسير ركب) وخالد حبيب الراوي  وابراهيم أحمد وحسب الله يحيى  وبعض تمثلات سعيد الكفراوي.

وإذا كنا قد انفتحنا في هذا التداعي النقدي الحر على فن القصة القصيرة فلا بد لنا  من الإشارة  إلى النص المرادف  والقريب من تجربة القصة القصيرة وهو فن الأوشارك (الاوجارك) الروسي المنشأ.

 وهذا الفن ابتكره المراسلون السوفييت خلال الحرب العالمية الثانية وهو يجمع بين المعلومات التي تضخ لسبب يتصل بالمادة الدرامية موضع التجسيد الفني الذي يجمع بين الإضافة المعلوماتية والحركة الدرامية  وهم كثيرون، منهم يوري ناغابين (الذي ترجم لي قصة أنا عاطل إلى الروسية ونشرت في مجموعة كتب مقدمتها يوري ذاته وترجمها إلى العربية نجاتي صدقي ضمن عنوان 44 قصة عربية).

 وكان ممن تأثر بفن الأوشارك القصصي  الراحل الفذ الاستاذ غازي العبادي  الذي نشر ضمن مجموعته (ايقاعات منتصف الليل) مجموعة أقاصيص وضع لها عنوانا مغايرا هو (قصص وما أشبه) تتبع تلك البنية المشابهة للاوشارك، وهو أمر خالفه فيه كثيرون أرزهم مجايله..أستاذ القصة القصيرة الراحل  عبد الأله عبد الرزاق، الذي كان حريصا على بناء عمارة القصة القصيرة كلمة فأخرى.. حتى الوصول إلى النهاية التي تستحق النقاش.

وكانت من أقاصيص عبد الأله عبد الرزاق المهمة  قصتاه اللتان نشرهما في (الآداب) عام 1976 وهما (السيف والحسم) وقد امتازتا بعمارتيهما  المليئتين بالأسئلة وطرح الصور الاشكالية لحركتي الجسد وإرادة العقل.

ويشير الراحل الكريم عبدالرزاق في مقابلة له إلى تجارب قاص بصري لم يكن قريبا من اضواء الصحافة هو عبدالله طه، لم أجد له أثرا منشورا.

نأتي إلى القصة المختارة لعلي خيون من مجموعته (خطوط على لوحة جرداء) وهي قصة (أغنية شائعة) والأغنية التي تتردد في حفلات الزواج ضمن الأهازيج الكثيرة الفرحة يرددها أطار القصة عدة مرات على لسان صبرية والشارع العام والهازجين، تقول لازمتها (جبنالك  برنو  ما ملعوب بسركيها) وهي لازمة يخاطب بها العريس للدلالة على عفة الفتاة - العروس ونقاء جسدها من كل عبث سابق.

 يرسم القاص المفتتح بحركة (كريمة) في غرفة ابيها الراحل وهي تسمع ضجة الزفاف واصوات المحتفلين القادم وهزج المحتفيين  بالأغنية  التي تؤكد نقاء جسد  العروس وهي جارتهم رسمية.

 تفتح كريمة ضفتي باب الدار لتتوالى تداعيات سريعة عن حياتها كطفلة وصورة امتحان البكالوريا ورسوبها وعشقها لشاكر الذي يعدها بالزواج دوما وهو يمتص أنوثتها، فيما يردد المحتفلون مع صوت الطبل كلمات الأغنية الشعبية التي تتحدث عن بندقية لم تستخدم بعد.

 تتداعى صورة شاكر وهي تتوسل اليه أن يشتغل ويخطبها وصورتها معه وهما في لحظات صفاء قلق.. يقطعه حوار تشف سريع مع شقيقة شاكر عند الباب ثم يقطع القاص على تداعياتها في عدة مشاهد مع شاكر وهو يعبث بكنوزها. 

يدخل هنا مشهد أمها وهي تطلب منها جلب عصير لامرأة تزورها ساعتها.. تفعل، وتقول عنها الزائرة (أم سلمان) إنها مثل القمر فيما تشعر كريمة بذوبان عودها وصفرة وجهها وقلقها من علاقة غير مستقرة مع شاكر اللعوب.

تخرج كريمة لجلب قطعة ثلج للزائرة من دكان قريب وهي تفكر بأبنها القصاب سلمان.. ثم تعود وسط ضجة الشارع  والزغاريد التي انطلقت من دارها معلنة خطبتها لسلمان، وهي تشعر انها سلعة تباع  فيما يهزج الأطفال حولها عن بنقية البرنو الصافية وهي تنهرهم قائلة (الفتاة ليست بندقية برنو، إنها إنسانة ولها مشاعر وأحاسيس والزناد جزء من البرنو يا أغبياء)  لتسقط منها قطعة الثلج وهي تتعثر وسط الدهليز المؤدي إلى دارها المشحون بالفرح وسط تداعيات ترديد الجميع للأغنية الشائعة.. عدا كريمة.

يشيد الدكتور علي جواد الطاهر في مقدمة المجموعة بقدرة علي خيون في اقتناص الصورة الاجتماعية والحرص على ايفاء البناء الفني حقه، وإننا لنجد في البناء السردي لقصص علي خيون عمارة محكمة بقدر ما وجدنا في تشظي قطعة الثلج ساعة الخطبة من معنى ودلالة.

بذلك نجت هذه الاقصوصة من الضعف وفي وصف احتدام المشاعر وسط أصوات الفرح الخارجية وصراع كريمة مع ذاتها وقد سقطت قطعة الثلج متشظية دلالة على التشظي الداخلي لعواطف البطلة.