عواد ناصر: {التجييل} من مهمات دوائر الأحوال المدنيَّة

ثقافة 2024/03/05
...

 حاوره: كاظم غيلان 

تظل أسئلة الثقافة ملحة، مستمرة طالما بقيت الثقافة وهي تزخر بفعالياتها وأنشطتها، إلا أنك تجدها راكدة لا جدوى منها دونما نقد ثقافي، وأن أرادت الجهات القائمة عليها أن تبقيها على حالها فلن تتعدى حدود الضجيج كالذي تطلعنا عليه صفحات التواصل الاجتماعي، تظل في دائرة خارج الثقافة، قريبة إلى حد ما من السياسة في تراشق أطرافها.  عواد ناصر، الشاعر الآتي من منفاه اللندني إلى مهرجان المربد الشعري يجيب هنا عن أسئلة اقتضتها العديد من المتغيرات التي جرت بعد حوار بعيد كنت قد أجريته معه في "أربيل" قبل سنوات في واحدة من فعاليات أسبوع {المدى} وقتذاك.

اعتلال الشعر 

* دُعيتَ لمهرجان المربد الشعري في دورته لهذا العام، كيف وجدت الشعر: معتلا؟ معافى؟.

- معتل الأول والآخر. لكن في هذا السياق لا بدَّ من الإشارة أولا إلى الجهود المبذولة من قبل اتحاد أدباء البصرة حيث توفر كل شيء في المربد ما عدا النادر جداً والذي لا يمكن أن تعثر عليه إلا بالمجهر وهو الشعر.

الكثير من الدعوات لم تقم على أساس دور الشاعر ومنجزه وتاريخه مع الأسف. 


* هذا يعني أنّنا حقاً نعيش عصر الرواية؟


- لا يعني أن الرواية في انتعاش بخلاف الشعر .

التجربة العراقية برمتها تحتاج إلى تدقيق. لماذا؟.

اذا كانت الثقافة العراقيَّة برمتها تكشف الكثير من المشكلات والاشكالات فهذا ينطبق على مجمل الأنواع الإبداعيَّة. 

ثقافتنا التي تبدأ من المطبخ وتنتهي بالفلسفة، افتراضاً. 

إذن هناك الكثير من الأسئلة بخصوص ثقافتنا ومتلقيها من أجل ردم الهوة بين فرن الخبز والمكتبة. 

معرض الكتاب الأخير الذي حضرت العديد من أيامه ولياليه هو حالة من أجل أن يكون الشارع العراقي طليقاً أمام دور العرض والجلسات النقديَّة، إذ ثمة إقبال جيد على الكتب في المعرض لكن في الحياة عموماً ثمة منظومة مترابطة بين البنيتين الفوقيَّة والتحتيَّة لمجتمعنا. 

في الجدل الفلسفي أن كلاً من البنيتين تؤثر في الأخرى، فلا قراءة مثلا من دون تعليم اساسي جيد لأطفالنا ومن دون صحة بالمعنى الطبي لعموم المجتمع وحالة استرخاء مقبولة لمجتمع متوتر.


الهامش المنتج

* لكنني ومن خلال ما تفضّلت به من إجابة أعزو نمو الهامش هو سبب هذا التراجع فماذا تقول؟


*  أرى أن مفردة الهامش في السؤال عائمة مثلا: تجربة الصعاليك في فترة ما قبل الإسلام، ولا استخدم كلمة "الجاهليَّة" تجربة الصعاليك هامشيَّة على متن ثقافة تلك الفترة ولكنها منتجة ومؤثرة حتى الآن. هذا بالنسبة لي على الأقل وحسب مصادر ثقافتي الشعرية، ولكن بالمقابل هناك هامش أسسه ويؤسسه هامشيون من القائمين على الشأن الثقافي في البلد يدفعون بثقافتنا عموماً والابداع الفني خصوصاً نحو مسارات أخرى ليست لها علاقة بإدارة وترويج هذا الإبداع على أسس إبداعيَّة إنما على ضوء خرائط طريق ليست لها علاقة بالثقافة.


شائعات النقد 

* لم يزل عدد من المهتمين بالنقد يصرون على تحقيب الأجيال الشعرية وتجنيس الأدب عموماً.. ما رأيك أنت كشاعر؟


- "التجييل" من شائعات النقد مع الأسف. عندما رسّخ الكثير من نقادنا مفهوم التجييل على أساس التحقيب العشري للأجيال، شخصيَّاً لا أؤمن بهذه الطريقة التي هي من مهمات دوائر الأحوال المدنيَّة، مثلاً جيلنا السبعيني على افتراض هؤلاء النقاد والباحثين وضعوا إبداعنا العراقي في خنادق لا تتصل بعضها ببعضها الآخر لأن كل حقبة تاريخيَّة تأخذ بأردان الحقبة التي سبقتها. 

ومن ثمَّ لحقتها وعليه نحن ما زلنا نقرأ ونردد ونحفظ أبا تمام وأمرؤ القيس ورامبو وبابلو نيرودا ورسول حمزاتوف فهل نحكم على مثل هؤلاء على وفق التحقيب العشري؟، السبعينيون مثلا لم ينضووا تحت يافطة تمثلهم لأن الإبداع بالضرورة جهد فردي، فمبدعو فترة السبعينيات ليسوا متشابهين، بل لكل منهم لغته ورؤيته ورؤياه وهم مثل أصابع اليد، لكن عبر العالم كانوا يؤثرون بمن جايلهم أو جاء بعدهم تستمر الحلقات عبر مسيرة الإبداع في تاريخ العالم.


* أكدت أو كررت السبعينيين لأكثر من مرة. أين هم؟، بمن اثروا؟،

- هم موجودون، لكن تغيروا، وأصبحوا شيوخا الآن، ووفق المنطق النقدي هم اثروا بالتأكيد مثل من سبقهم عبر تاريخ الشعريَّة العربيَّة مثلما تأثروا هم بتاريخ هذه الشعريَّة، لأنَّ.. ووفق المنطق اثروا في من تلاهم من عقد أو عقود تلتهم، هم أبناء حقبة ملتبسة بسبب تأطير المجتمع بأساليب قمعيَّة قاسية ولم تتح لهم الفرصة الكافية لاستمرار تجربتهم ونموها بشكل طبيعي حتى أسوة بتجارب بلدان مجاورة في إدارة الحكم وحركة الثقافة. 

أما عن الشق الثاني من سؤالك وأعني "التجنيس" : لو وضع كل قارئ أصبعه على اسم المبدعة العربيَّة وقرأ النص من دون أن يعرف هل هذا النص كتبته امرأة أم رجل فلم يجد البصمة الجندرية على هذا النص خصوصاً النصوص الإبداعيَّة المتميزة، الفن عموماً الذي تنتجه النساء حامل لأصوات وإشارات إنسانيَّة عابرة للجندريَّة وما عبارة "الأدب النسوي" مثلاً سوى نظرة فوقيَّة استعلائيَّة يمارسها نقاد وباحثون وحتى قرّاء إلى المرأة بنشاطها الإنساني لا بوصفه إنسانيّاً إنّما سياسي.

النساء المبدعات يقفن إلى جانب الرجال المبدعين كتفا إلى كتف  من أجل إشاعة مبدأ الكفاح ضد التمييز العنصري والفنون خصوصاً أن المرأة تعاني من قمع مركب بوصفها إنساناً مثلها مثل الرجل، بل أكثر لأنّها تعامل على أساس هويتين الجندرية والإنسانيّة، ولنا في ذلك أمثلة عديدة من الصعب تعدادها ولا بدَّ من القول أو الإشارة الى (سنية صالح) و (نوال السعداوي) و(فاطمة المغنيسي) وأخواتهن على طريق الحرية والجمال.


* ولكن هناك من المبدعات حسبما يصطلح يروجن للتجنيس. فأين الخلل؟.

- بخصوص هؤلاء المبدعات فرحن بما يؤكد نسويتهن للأسف وتكريس هذه العنصريَّة إلى حد أصبحن فيه عصابيات في سلوكهن ونتاجهن إلى حدِّ كراهيتهن للرجال.


تخادم السلطة 

* في العراق ماراثون مستمر للفعاليات ثقافيَّة تأخذ الطابعين الكرنفالي والطقوسي، ألا تجد في هكذا ظاهرة شيوع السطحي وتراجع العمق المعرفي للثقافة؟.


- نعم حتى الآن، هناك مؤسسات ثقافيّة وإعلاميَّة تتخادم والسلطة السياسيَّة، أي سلطة سياسيَّة، وتتماهى مع خطاب هذه السلطة بتحقيق منافع شتى، كل سلطة بالمطلق، حتى سلطة (لينين) عارضها مايكوفسكي صاحب القصيدة الطويلة - الديوان- بعنوان (لينين) ويؤكد كلامي هذا ما كتبه مايكوفسكي في الرسالة التي تركها بعد انتحاره وجاء فيها: (زورق الأحلام اصطدم وتحطم) أما أهم شاعرة روسية سوفيتية (آنا اخماتوفا) فقد دفعت ثمناً باهضاً جراء موقفها من ستالين الذي فتك بها وعائلتها عندما نفى أغلبهم إلى سيبيريا. 

أعني بهذا المثال الموقف الإبداعي لا السياسي الايديولوجي الذي أعادت إنتاجه لتحوله إلى شعر حقيقي لا شعاري، وكتبت مرة بهذا الصدد بما معناه: أنا مع اخماتوفا ضد ستالين، استشهد هنا أيضا بما قاله احد الشعراء الفرنسيين: إن الذاكرة التي كانت منبعاً للجمال أصبحت زنزانة تعج بأدوات التعذيب.


وطن اللجوء

* نعود إلى التحقيب، ما الذي ميّزك باعتقادك عمّن جايلوك؟


- إذا كنتَ متميزاً حقاً فهذا يعود لبراءتي الشعريَّة وحريتي في قول ما أريد من دون أي حسابات أو ضوابط خارج شروط الشعر كما أفهمه. حاولت وأحاول حتى الآن أن انطلق من ايديولوجيا الشعر، حسب، لا شعر الايديولوجيا، لهذا السبب يعتبرني بعض الأصدقاء أنّني مقلٌّ ولستُ مباحاً أو في متناول اليد مثل الآخرين. لأني لا أفرّط بوطن يُدعى القصيدة كما فرّطت بوطن اسمه العراق على أن العراق يمكن استعادته بشكل أو بآخر بينما لا يمكن التفريط بالشعر لأنّه وطن اللجوء الأخير. 

الانتشار ممكن جداً لكنني اكتفي بالقليل ومثالي في هذا الطفل الفرنسي "آرثر رامبو" الذي غيَّرَ خارطة الشعر العالمي قبل الفرنسي . للتوضيح: قلتُ هو مثالي ولم أقلّده.


* رامبو .. "وجد المفتاح وانفرد به" على حد قوله. هات لي شعراء عراقيين جايلوك أو جايلوا غيرَك حملوا مفاتيح باهرة في شعريتهم؟.

- نعم، هناك شعراء حملوا المفاتيح وانفردوا بها وسأفاجئك بشاعر مقل أيضا اسمه "محمود البريكان" الذي أضاء في منطقة الظل ولم يَدَّعِ أنَّ (ناظم حكمت) بكى على صدره. بالمناسبة، عثرت على كتيب صغير بالانكليزية في مخزن للكتب القديمة في لندن لرامبو عنوانه (رامبو.. الأعمال الشعريَّة الكاملة) ولا يتجاوز عدد صفحاته الـ (400). فتخيل أن هذا الشاعر الشاب الذي غيَّرَ خارطة الشعر العالمي لم يترك سوى هذا الكتاب. هذه اللحظة التي اقتنيت فيها الكتاب وقرأته وضعتني أمام أسئلة نقديَّة بشأن نفسي مثل: ما الذي عليك أن تفعله يا عوَّاد لكي تبلغ عشر معشار شاعرك الأثير هذا؟، أخذ هذا السؤال يتردد في روحي ليلا ونهارا منذ سنوات طويلة وما زلت أبحث عن قصيدتي التي لم أجدها 

بعد.


منظومة الخراب 

* تصاعدت مؤخراً وليس أخيراً ظاهرة الدراسات الاكاديميَّة العالية للتجارب الشعريَّة والهابط منها خصوصاً.. لمن تعزو ذلك؟


- أشرت في بداية الحوار إلى منظومة مركبة مترابطة من الخراب ومنها ما نسيت الإشارة له وهو الخراب الاكاديمي، إنّه لأمر جيد أن يهتم ناقد أو باحث اكاديمي بالشأن الشعري في دراسة شاعر أو مجموعة من الشعراء بشرط البراءة والنزاهة المهنيَّة بلا دوافع خارج هذا وعرفت بأن ثمة صفقات تعقد ما بين الشاعر والاكاديمي المعني، وهذا عنصر آخر في منظومة الخراب العام. 


* عشتم تجربة فصائل الانصار التي قارعت النظام في كردستان العراق. هل شغلت تلك التجربة حيزاً في مسارك الشعري؟. 


- عندي مخطوطة كاملة بعنوان (أحلام القرى وأخبار الحروب) وصدر لي كتاب أثناء وجودي في كردستان عنوانه (حدث ذات وطن- هامش عراقي) وعندما عدت إلى دمشق من كردستان وجدت في مكان ما علب كارتونية مليئة بنسخ من هذا الكتاب تقدر بالمئات ولا أعرف حتى الان ما الذي حلَّ بها، أما لماذا لم تنشر هذه المجموعة (أحوال القرى) فأنا لا أبحث عن الناشر على وفق وهم من أوهامي أن الناشر هو من يبحث عن الناشر وكتبت مرة على صفحتي في (فيسبوك) بوست صغير قلت فيه: (أبحث عن الناشر الشاعر لا: الناشر التاجر). كل الناشرين يبحثون عن النجوم وأنا شاعر مغمور يبحث عن الناشر الشاعر.

أما الشق الآخر من سؤالك بخصوص هذه التجربة فهي لبَّتْ لدى الكثير من أمثالي (الشبان آنذاك) أحلامهم الغيفاريَّة، لكن في السياسة هناك مشاريع وضوابط وألعاب لا تعرف بالاحلام. هذه التجربة ما لها وما عليها كانت صفحة من صفحات نضال الشيوعيين العراقيين ولكنها كانت بحاجة بنية تحتية، مثل البنية  التحتية للثقافة التي تحدثت عنها في اجابة سابقة. 

لم تأتِ في التوقيت المناسب لقياس الاستعداد الذاتي لخوض هذه التجربة وافتقرت إلى العمل اللوجستي الصحيح في ما يتعلق بطريقة السوق الفكري والنفسي والتنظيمي من قبل قيادتها وخضوع التجربة لألعاب سياسيَّة وتحالفيَّة إضافة لجوانبها الذاتيَّة التي كانت بحاجة إلى نضج فكري وعسكري يتلاءم ويتماشى مع طبيعة المرحلة تلك وآفاقها.


اصداراته 

- من أجل الفرح .. أعلن كآبتي / دار بابل - بيروت 1982.

- حدث ذات وطن - هامش عراقي - دار بابل - بيروت 1982. 

- هنا الوردة .. فلترقص هنا - براغ 1985.

- أحاديث المارة - بغداد - دار المدى 2014 

بيت الحلزون - الرباط - سليكي اخوان  2017.

- ديوان الرسائل - القاهرة - دار اروقة 2022


مخطوطات 

- مخطوطة (الخيط والمفتاح) 

- مخطوطة (الأثر والريح) 

- مخطوطة سرديَّة اللا سيرة.