التحولات البنيويَّة للشخصيَّة الروائيَّة

ثقافة 2024/03/06
...

د. عمار إبراهيم الياسري

 شهدت الرواية الحديثة متغيرات بنيويَّة كبيرة في معمارها النصي، فالشخصيَّة التي كانت تنهل من الواقع بوصفه المادة الخام فارقت مرجعياتها التقليدية والزمن الفيزياوي الذي يربط سببية الأحداث تشظى بين الواقع والمتخيل والمكان الذي شكل بنية حاضنة للأحداث فارق المألوف السردي والأحداث التي تتوسل بالعلة والمعلول من أجل تنظيم تدفقها من نقطة انطلاق الفعل مرورًا بالأزمات فالذروة ثم النهايات المفترضة تلاشت تقعيداتها المتوارثة، لنشهد بنية سردية قوضت السائد باتجاه أشكال مغايرة ذات صيرورة سائلة تمضي بموازاة المتغيرات السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والدينيّة التي ساهمت بشكل كبير في نضوج الرواية الحديثة.

شكل المتحول البنيوي للشخصيّة بنية قارة في رواية الخبء، إذ ينهض متنها الحكائي على حكاية الشاب (ياسر) الذي يعود من سويسرا إلى العراق ليكمل البحوث العلميّة لوالده العالم بالفيزياء الذي تعرض قبل سنوات إلى الاغتيال من قوى الاستكبار العالمي بعد معرفتهم بالتجارب الخارقة التي قام بها لتطوير السلالة البشريّة ما يجعل من شخصية (السوبرمان) العالمية عرضة للخطر، يتعرض (ياسر) الابن إلى ذات المضايقات التي تؤدي إلى مقتل رفاقه فيما يغيب عن وجوده المادي بعد قضائه على قوى الاستكبار العالميّة قبالة انهيار منظومته العلمية عدا رقاقة (جيلاتينية) مثلت خلاصة تجاربه العلميّة غذتها زوجته الناجية إلى طفله الرضيع في إحالة دلاليّة تشير إلى أنَّ بلاد الرافدين بلاد تغذت بالعلوم والمعارف من حضاراتها القديمة حتى الفيوضات المعرفيّة للقرآن الكريم.
 ولو تابعنا المنظومة العلائقيّة للشخصيات التي شيدها الروائيّ في مشغله السردي نلحظ الشخصيات الواقعيّة والشخصية الضوئية الرقمية وشخصية (السايبورغ) تعمل على تشييد بنية الحدث على وفق تشظية تموقعات السارد والزمن والمكان منذ المهادات الأولى التي صرحت بها العتبة الرئيسة الخبء، والتساؤل الذي تطرحه عتبة النص، ما الخبء؟ هنا يقع القارئ في حيرة نصوصيّة، إذ تتوالد المقترحات التأويليّة مع العتبات الفرعية التي تمحورت على مقترحات قرآنية روحانية تعتمل في جوانيات رجل الدين (آدم) الذي يفسر القرآن على وفق طروحات علميّة معاصرة وخبيئة، فالخبء ورد على لسانه في الصفحة الثانية والأربعين بعد المئة حينما يفسر الآية القرآنية (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)، إذ يرى بأنه مرتبط بالمخبوءات الأرضية والسماوية ومنها الموجات المعروفة وغير المعروفة التي سخرها الإنسان في العلوم، فلم تغادر شخصية (آدم) المرجعيات الواقعية للشخصية لكنها تآزرت مع الشخصيات الرقميّة في تشييد بنية الأحداث مما جعل الواقع المفترض بنية مهيمنة في الفضاء الروائي، فيما تنوعت الشخصيات المرقمنة ما بين شخصية (الهيلوغرام) وشخصية (السايبورغ) والشخصيات الآلية.
 تشتغل المعالجات الفنيّة للمبنى الحكائي على تفعيل المخيال الروائيّ للنهوض ببنية الحدث، وهذا ما نلاحظه في بنية الرواية، فبعد الغياب الماديّ لشخصية الأب الذي فرضته بنية الإقناع السرديّ شهدت الشخصية تحولًا بنيويًا نحو الشخصية الرقميّة من أجل استحضارها للسير ببنية الأحداث بصورة بعيدة عن الخرافة والأسطرة وهذا ما جعل الروائيّ يوظف التقانات العلميّة الحديثة مثل (الهيلوغرام) التي تعد تقانة بصريّة ذات صور ثلاثية الأبعاد تنفذ بوساطة أشعة (الليزر) التي تستنسخ الأجساد الماديّة عبر المحاكاة الليزريّة، وقد شاعت هذه التقانة في الاحتفالات العامة والأفلام السينمائية بالتزامن مع الثورة التقنيّة لبصريات ما بعد الحداثة، فالعالم الفيزياوي الذي اغتيل بقي ممسكًا بتلابيب السرد عبر حضوره الضوئي مثلما نقرأ في الصفحة التاسعة والستين على لسان البطل (ياسر) وهو يصف الكائن الضوئي: (إنه بعث من جديد ولكن بهيئة كائن إلكتروني وملامح إنسانية طبق الأصل، كائن ضوئي)، إنَّ دينامية الشخصيّة الضوئية كانت وافرة التحولات، فتارة يهيمن على بنية السرد بدلًا من السارد العليم والسارد المشارك مثل (ياسر) و(نادين) وتارة يحرك الأحداث باستشراف علمي منحته إياه التقانة الضوئية وتارة أخرى يتلاشى نحو الفناء، فالتحولات البنيوية التي حاقت بشخصية الأب ساعدت تقانة (الهيلوغرام) على تحققها عبر يقينيات تنأى بنفسها عن الغرابة والخرافة التي تمور بها الرواية الكلاسيكية، ولم يكتف الروائيّ باستحضار الشخصيّة الضوئية بل عمد إلى توظيف شخصية (السايبورغ) وهو كائن تم تخليقه من مكونات عضوية و(بايوميكاترونية)، أي مزيج من رجل آلي مع خلايا حية بقدرات خارقة تمثل في شخصية (شارا) الرجل الذي يقدم الخدمات العلمية والأمنية لبطل الرواية فضلًا عن امتلاكه مستشعرات عاطفية إنسانية مثلما نقرأ في الصفحة الثانية والتسعين على لسان (ياسر): (لكزني شارا وهو يخشى التدخل دون طلب صريح مني، ضحكت بقوة وأنا أحاول سحبه قريبًا مني) فيما تمثلت الشخصيات الآلية بشخصيتي (رامان) و(أونامو).
 إنَّ الفضاء الروائيّ الذي تعتمل فيه الشخصيّات المختلفة يجب أن يبرر وجودها التقانوي لذا وظف الروائيّ الفضاء العلمي ليشغل بنية الفضاء الروائيّ عبر سلسلة أحداث ترتبط بالشخصيّات فعمليات التطوير العلمية ومنذ مهاداتها التي أسسها الجد في معمل الحدادة ثم الدراسات العلمية للأب وتصنيعه للمختبر العلمي القادر على تطوير المعادن ومن ثم تطوير نظرية (الكوارك) وتطوير المديات الصوتية وصولًا للرقاقة (الجيلاتينية) التي تناولها الابن الرضيع ليكمل مسيرة العلم فيما بعد برر وجود الشخصيّات العلمية ونسج منظوماتها سواء كانت الفيزياوية أم النفسيّة أم الاجتماعيّة، ليس هذا فحسب، بل ساهم وجودها العلمي في اختزال الأزمنة أو إعادة تركيبها وتشكيل المكان الافتراضي بمحاذاة الواقعي والتبئير السردي مما جعلها شخصيّات نابضة بالواقعي والمتخيل والعلمي والروحي.
رواية الخبء من الروايات التي وظفت التقانات الرقمية والخيال العلمي الذي لم يبتعد عن الواقع المعيش بل يستشرف غده القريب والشخصيّات المصنوعة بعناية التكنولوجيا المعاصرة لترتدي حياة الواقع عبر بنية حدثية متماسكة برع في صياغتها الروائي ماهر مجيد إبراهيم.