تزايُد الأدلّة على تراجُع حريَّة التعبير
جاكوب ماتشانغاما *
ترجمة: مي اسماعيل
هناك اتجاه واضح ضد حرية التعبير في ديمقراطيات العالم؛ حيث واجه المناخ العالمي لحرية التعبير تحديات عسيرة خلال عام 2023، وحتى الديمقراطيات المنفتحة فرضت اجراءات تقييدية لمحاربة مجموعة من التهديدات، التي تشمل خطاب الكراهية والتضليل والتطرف والتشويش العام. ويجسد قانون {الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي} هذا الامر. بعد هجوم حركة حماس الفلسطينية ضد اسرائيل في السابع من تشرين الأول الماضي أرسل {تييري بريتون} مسؤول شؤون الإنترنت التابع للمفوضية الأوروبية سيلا من الرسائل {قليلة اللباقة} الى شركات التكنولوجيا الرقمية؛ مثل- ميتا )فيس بوك سابقا).
وغوغل وتيك توك و"أكس" (تويتر سابقا)، متسائلا عما سيكون عليه الردّ تجاه خطاب كراهية "غير محدد" وتجاه "المحتوى الارهابي" و"التضليل" بحسب وصفه؛ وهدد بريتون بغرامات كبيرة في حالة عدم امتثال تلك الشركات لتوجيهات الرد. أثارت سياسة بريتون العدائية اتهامات بالتجاوز وانتهاك المعايير الدولية لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من ذلك فإن العديد من الديمقراطيات ترى ان الخدمات الرقمية تمثل خطة مسار عالمي للتنظيم عبر الإنترنت. كما ان دولا مثل تشيلي وكوستاريكا وتايوان في طريقها لتبني مشاريع قوانين مستوحاة من النموذج الأوروبي.
في الوقت ذاته جرى التضييق بشدة على حق الاحتجاج في سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ إذ فرضت كل من فرنسا وألمانيا حظراً واسع النطاق على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين؛ بدعوى احتوائها على خطاب الكراهية ومخاوف تتعلق بالنظام العام. كما جرى توسيع القوانين ضد الكراهية والإساءة والشتائم بشكل كبير في العديد من الديمقراطيات؛ ففي انكلترا جرت ملاحقة امرأة واستجوابها من قبل الشرطة لأنها حملت لافتة تصوّر بشكل ساخر رئيس الوزراء البريطاني ووزير الداخلية على أنهما جوزتا هند.
وفي أيرلندا جرى إعداد مشروع قانون جديد لخطاب الكراهية لتجريم "المواد التي من المحتمل أن تحرض على العنف أو الكراهية ضد شخص أو مجموعة من الأشخاص بسبب خصائصهم المُصانة... بهدف نقل تلك المواد إلى الجمهور أو قسم من الجمهور؛ سواء بنفسه أو بواسطة شخص آخر".
هذا التعريف واسع الاطار يمكن أن يُجرّم الرموز أو الصور المتحركة التي يتم تنزيلها على الهواتف المحمولة أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة.
ومن جهة أخرى، أعادت الحكومة الدانماركية تفعيل جريمة التجديف (= الكفر. المترجمة)، التي تم التوقف عن تطبيقها فعليا منذ العام 1946، والتي تحظر "المعاملة غير اللائقة" للنصوص الدينية. ولا تحظى الحرية الفنية بالحصانة أيضا، كما حدث في كوريا الجنوبية؛ إذ ألغت أمانة الجمعية الوطنية معرضا في بهو مبنى البرلمان بسبب تصويره غير المُحابي لرئيس البلاد.
تغيُّرات بصيغة قوانين
وثّق تقرير جديد صدر عن "مشروع مستقبل حرية التعبير" ان هذه التآكلات الدراماتيكية لحرية التعبير في الديمقراطيات ليست أحداثا جديدة أو معزولة؛ بل جزءا من حالة الركود لحرية التعبير هي الأوسع على المستوى العالمي والذي ابتليت به الديمقراطيات المنفتحة.
يُحلل التقرير اتجاهات حرية التعبير داخل اثنتين وعشرين من الدول الديمقراطية المنفتحة حول العالم خلال سنوات 2015 - 2022؛ وهي فترة حفلت بالكثير من الاحداث العالمية المفصلية كان منها- هجمات ارهابية مروّعة ووباء كوفيد- 19 والحرب في أوكرانيا والحملات الاعلامية من قبل روسيا والصين. تلك الاتجاهات واضحة بقدر ما هي مثيرة للقلق؛ إذ أشارت 78 بالمئة من التطورات التي حددها الخبراء في البلدان التي شملها الاستطلاع إلى زيادة القيود المفروضة على حرية التعبير. وشهدت كل واحدة من تلك السنوات (ما عدا 2015) تطورات مقيّدة لحرية التعبير (في مقابل تطورات حامية لحرية التعبير). وكانت أغلب تلك التطورات تظهر على شكل صياغات قوانين، شهدت زيادة ملحوظة خلال العام 2022.
وكان الأمن القومي والتماسك الوطني والسلامة العامة من أكثر الأسباب التي جرى ذكرها لأجل قمع حرية التعبير. خلال الحرب ضد ما يطلق عليه اسم "التطرف الإسلامي" تبنت الدانمارك موجة من القوانين المقيدة لدخول الدعاة الدينيين الذين ترى أن تعاليمهم تقوض "القيم الدانماركية" وصدرت هناك قوانين تُجرّم ارتداء البرقع والنقاب، وتحارب الخطاب الديني لمن تطلق عليهم وصف "دعاة الكراهية". اما كوستاريكا فتُجرّم إهانة العَلَم أو إشارة إلى عدم احترامه وكذلك تجرم إهانة الرتبة العسكرية أو أي من الرموز الوطنية.
في أستراليا، صدر قانون "التجسس والتدخل الأجنبي" بحلول العام 2018 ليفرض عقوبات شديدة تصل إلى السجن عشرين عاما بتهمة تسريب معلومات حساسة أو المشاركة بنشرها معتبرة إياها جرائم ضد المصالح الوطنية. وأثار المدى الواسع للقانون والعقوبات القاسية التي تضمنها جدلا حول تأثيره القارس على حرية الصحافة وتقارير المصلحة العامة التي قد تتأثر بسبب الرقابة الذاتية. وربما لم تذهب أي ديمقراطية إلى ما هو أبعد من إسبانيا في قمع خطاب "الإرهاب" حينما حُكِمَ على مغني الراب والناشط السياسي (من اقليم كاتالونيا) "بابلو هاسيل" بالسجن لمدة تسعة أشهر لتمجيده "الارهاب" والافتراء على التاج ومؤسسات الدولة عبر كلمات أغاني وتغريدات تهاجم النظام الملكي والشرطة. كذلك ضاعفت الدول الديمقراطية حملتها على "خطاب الكراهية"؛ ففي العام 2022 منعت كندا "التغاضي عن أو الإنكار أو التقليل من شأن.. الهولوكوست". كما طالب قانون "NetzDG" في ألمانيا مواقع التواصل الاجتماعي التي تضم أكثر من مليوني مستَخدِم بحظر أو حذف المحتوى الغير قانوني بشكل واضح خلال مدة 24 ساعة من تلقي الشكوى وبعكسها سيواجه المخالف غرامات مالية باهظة. اضافة لذلك وسّعت ألمانيا نطاق قوانينها المتعلقة بتجريم الاهانات تحت عنوان دافع الكراهية؛ وأدى هذا الموقف العدائي إلى آثار ملموسة. إذ نقلت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في العام 2022 أن أكثر من ألف مواطن ألماني واجهوا تهما تتعلق ببث خطاب الكراهية على مواقع الانترنت منذ العام 2018، وشملت بعض الحالات مداهمات الشرطة في الصباح الباكر ومصادرة الأجهزة الشخصية للمتهمين. واللافت للنظر ان القوانين الألمانية ضد خطاب الكراهية والاهانات جرى استخدامها للتحقيق مع أفراد بشأن تعليقات تنتقد السياسيين؛ مما أثار مخاوف بشأن تأثيرها على حرية التعبير السياسي. وتبنت دولة جنوب أفريقيا أيضا قانونا ضد خطاب الكراهية على الانترنت، وهي بصدد اعتماد مشروع قانون أكثر عمومية بالشأن نفسه. ومع ذلك أقرّت محاكم جنوب افريقا (ومنها المحكمة الدستورية) إن حرية التعبير تحمي حتى الخطاب المؤذي أو المُسيء.
حرية التعبير والسلم الاجتماعي
يشير مقياس القيود المفروضة على حرية التعبير داخل المجموعة متقلصة العدد من الديمقراطيات المنفتحة إلى أنه في الوقت الذي تواجه فيه تلك الديمقراطيات تحديات خطيرة؛ فإن العلاج الموصوف لتلك العلل قد يصبح أسوأ من المرض. وبات مطلوبا من الديمقراطيات المنفتحة على وجه الخصوص أن تكون حذرة من أن لا تصبح اكثر اطمئنانا نتيجة لإستخدام الادوات ذاتها التي توظفها ديمقراطيات أُخرى يعتبرها البعض متصدعة أو غير ليبرالية؛ كما هو الحال مع الهند والمجر وحتى البرازيل؛ وبضمنها الرقابة على المعارضة وزيادة سيطرة الحكومة على المجال العام.
إن اغراء محاولة حل القضايا الاجتماعية والسياسية المُعقدة عبر وسائل متجددة دائما من القمع ليس مجرد اسلوبٍ خطير من وجهة النظر المبدئية؛ بل إنه أمر يثير الشك في الامكانية الفعلية لحل تلك المشكلات. حتى إن المدافعين التاريخيين عن خطاب الكراهية مثل الدانمارك وبريطانيا باتوا يختارون مصطلح "التناغم الاجتماعي" مفضلين إياه على مصطلح حرية التعبير.
رغم الجهود الألمانية للقضاء على خطاب الكراهية، لاحظت السلطات ارتفاعا قدره ثلاثمئة بالمئة خلال الحوادث المعادية للسامية بعد هجوم السابع من تشرين الأول الماضي الذي شنته حركة حماس الفلسطينية ضد اسرائيل.
كما بات موقع حزب "البديل من أجل ألمانيا" السياسي اليميني المتطرف أقوى من ذي قبل. واكتملت الصورة مع الفوز الانتخابي مؤخرا للهولندي "غيرت فيلدرز" المناهض للمهاجرين، الذي سبق وأن تم توجيه الإتهام له بالاهانة الجماعية ومحاكمته بتهمة التحريض على الكراهية والتمييز (من دون أن يُدان). هذه الحوادث السياسية مجتمعة يجب أن تكون بمثابة تحذير من أن القمع قد يؤدي إلى تضخيم الأصوات غير الليبرالية بدلا من إسكاتها.
في الواقع هناك أدلة متزايدة على أن حرية التعبير تحد غالبا من الصراعات العنيفة في الديمقراطيات المنفتحة بدلا من تأجيجها. ويبدو ان العلاقة الايجابية بين حرية التعبير والسلم الاجتماعي تنطبق بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بمواجهة الإرهاب. وأحد الاسباب لهذه العلاقة الايجابية هي نظرية "صمام الامان"؛ التي ترى أن السماح بسماع حتى مظالم المتطرفين، بدلاً من قمعها، يقلل من احتمال لجوئهم إلى العنف. إذ ترى الوساط الداعمة لهذه العلاقة أن السماح للمتطرفين بالتعبير عن افكارهم قد يجعل من الأسهل أيضا على سلطات تنفيذ القانون تحديد هوية ومراقبة الافراد الذين من المرجح أن يُحولوا كلمات الكراهية إلى أعمال عنف.
لكن التخلي عن الاندفاع لقمع الخطاب الضار لا يستلزم تجاهُل التحديات الحقيقية التي تواجهها الديمقراطيات من أولئك الساعين لتخريب المجتمعات المفتوحة وقيمها. وعندما يتعلق الامر بخطاب الكراهية؛ يجب إعطاء الأولوية لتفعيل الخطاب المضاد (سواء عبر الإنترنت أو خارجه). وكذلك يجب تضمين تعليم قيم التسامُح والمساواة في المدارس والتعليم، وإعطاء الأولوية للتعبير الرسمي عن التضامن مع المُستهدَفين من وجهة النظر المتعصبة وإدانة مرتكبي الجرائم؛ لإثبات أن الأقليات والفئات الضعيفة لها قيمة كبيرة في المجتمع. ويمكن للمجتمع المدني والجامعات وشركات التكنولوجيا الرقمية أن تُساهم بتعزيز نظام بيئي للمعلومات والأفكار يُحفز على نمو الثقة والتعاون والموثوقية بدلاً من الاستقطاب والعداء؛ لاجل تقليل التضليل وخطاب الكراهية الذي يُقلق الديمقراطيات جديا.
إذ تقوم هذه البدائل غير المُقَيّدة للرقابة على الاعتراف بقدرة حرية التعبير على التمكين والإبداع والتحسين والارتقاء؛ وهذا تحديدا ما يميز الديمقراطيات عن نظيراتها الاستبدادية وغير الليبرالية.
*(الرئيس التنفيذي لمنظمة
مستقبل حرية التعبير)
مجلة {فورين بوليسي} الأميركية