ابراهيم العبادي
منذ اعلان السيد رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي ارسال وفود الى واشنطن وطهران لتهدئة التوتر المتصاعد بينهما، تشهد بغداد رحلات سرية وعلنية تشمل المنطقة وخارجها، وكلها تدور في ذات الشأن الذي تحدث عنه رئيس الوزراء ، العراق القلق من احتمالات التصعيد العسكري يسعى ما أمكنه السعي الى منع انزلاق التوتر الى حرب تدمر كل ما بنته دول المنطقة وتحيلها الى دويلات محروقة، هذا السيناريو السيئ يدركه العراق عن قناعة، ويعرف ايضا ان اشتعال الحرب يعني انها ستكون شاملة وسيكون العراق وسطها الاكثر اشتعالا ،من هذه الرؤية يجد العراق نفسه مضطرا لبذل كل جهد دبلوماسي او سياسي لمنع وقوع الحرب ، خصوصا وانه يعرف ان احد مسببات التصعيد بين امريكا وايران، هو شعور الاميركان بانهم خسروا العراق لصالح ايران بعد انتخابات عام 2018 وصعود قوى معادية لواشنطن الى هرم السلطة في العراق، واكدته تهكمات احد قادة الحرس الثوري بقوله (فزنا على امريكا في العراق 3 - صفر ).
لكن ما هي حظوظ نجاح الوساطة العراقية، وكيف السبيل لانجاحها وجعل الجهود العراقية مؤثرة وذات قيمة وصانعة للسلام
فعلا؟.
قبل الحديث في جواب الاسئلة لابد من الاشارة الى ان بعض وسائل الاعلام نقل عن مصادر سرية قولها ان الوفد العراقي الذي ترشح للوساطة يضم وزير الخارجية ومستشار الامن الوطني ورئيس جهاز المخابرات، وهذه التوليفة ان صحت، ربما تكون فعلا مؤهلة لنقل الرسائل بين الخصمين الايراني والاميركي، لكنها هل تستطيع التأثير والاقناع في طهران في ضوء مبدأ اللاحرب واللامفاوضات الذي رفعه المرشد الايراني السيد الخامنئي؟ من شروط الوسيط الناجح انه لابد من ان يحظى بالثقة والتقدير الشخصي، والدعم والاسناد من حكومة بلاده، بالاضافة الى الحضور والاحترام في الاوساط العامة، ومن يعرف مراس وتعامل الايرانيين ، يدرك انهم لا يمنحون الوسطاء فرصا كبيرة ما لم يقتنعوا اشد الاقتناع بأن هذا الوسيط قد تم اختباره ومعرفة وزنه وميوله واتجاهاته، ربما ذلك كان مغزى اشارة رئيس الوزراء السابق الدكتور العبادي الى ان الوساطة العراقية غير ممكنة، لانه (لا الايرانيون ولا الامريكان يستمعون لنا) ، وهذه الاشارة بقدر ما هي مؤلمة ومريرة، فانها تؤشر كذلك الى ضرورة العمل الجاد في بغداد لكي يكون الوزن العراقي فاعلا ومؤثرا وليس تابعا ومستجيبا سلبيا، من خلال الاصرار على بناء الدولة وتوحيد قواها ومنع شذوذ طرف امني او فصيل مسلح عن الاجماع الوطني
العراقي.
على هذا الاساس تبدو الوساطة العراقية، محاولة لتجسير شكل من اشكال الاتصال بين طهران وواشنطن، وان كانت سلطنة عمان تقوم بهذا الدور ومازالت، لكن الدور العماني التاريخي يحتاج الى معاضدة عراقية هذه المرة لان (الحوار المسلح) بين الايرانيين والامريكان انما يجري بين الطرفين في ساحة العراق، فاذا قبلت طهران وواشنطن بالدور العراقي، فذلك يعني ان على بغداد ان تكون حازمة ومصممة وصارمة مع من يتحرك خارج اطار الدولة العراقية وفق المنظور الايديولوجي الاممي وليس وفق المصالح العراقية، بينما سيكون على امريكا ان تتراجع عن موقفها ازاء الحكومة العراقية عبر اعطاء فرصة لاختبار هذا الحزم العراقي من خلال جملة اشتراطات على الارض تنقلها يوميا السفارة الاميركية وطاقمها المتحمس او عبر زيارات الوفود الامريكية والهاتف المفتوح الذي يستخدمه الوزير بومبيو كثيرا، تحتاج الوساطة العراقية الى ان تكون مؤثرة اذن، من خلال المصداقية، وان تكون حذرة من خلال الاحتراس من الوقوع في شباك الشروط المعقدة للخصمين، احدهما ازاء الاخر، ان ايران تفضل موقف اللاحرب واللاسلم تمهيدا لتحسين شروط التفاوض لاحقا، بينما تسعى ادارة ترامب لقطف ثمار التصعيد بشكل عاجل، لتسجيل انتصار تكتيكي وهو ما يسعى الايرانيون لمنعه بشتى السبل، بين هذه التقاطعات الحادة، من يستطيع اقناع القيادة الايرانية بالتخلي عن مبدأ اللاحرب واللاسلم والبحث عن افق اخر لمقاربة الازمة المستعصية؟ بالتاكيد لن يكون بوسع احد في ايران ذلك، فقرار الحرب والسلم والعلاقات الخارجية بيد المرشد، والامريكان باتوا مقتنعين بانهم يواجهون جدارا من الصد، متمترسا خلف قناعة كبيرة من عدم الثقة والتوجس الشديد، وتراث سياسي طويل من الكراهية المتبادلة، ذلك ما يفرض عليهم اذا ارادوا احداث ثغرة في الجدار، ان يقبلوا بالاستماع الى وجهة نظر طهران في تفاصيل التفاصيل وهذا ما لم يستعد له طاقم ترامب المستعجل ومستشاره المتهور للامن القومي، قد يحتاج ترامب الى خبرة موظفي الخارجية الذين عملوا مع الوزير جون كيري وشاركوا في مارثون المفاوضات الذي اوصل الى الاتفاق النووي عام 2015، هناك حاجة الى ان تسمع طهران من طرف تصغي له مثلما هي حاجة واشنطن، والطرف الذي لا يمكن تجاوزه والقادر وحده على كسر الجمود هو مرجعية النجف العليا والحكمة السيستانية (الغائبة) عن هذا المشهد حاليا، والتي ستضطر للحضور في مهمة الانقاذ لاحقا اذا وقع المحذور، بالتاكيد سيكون السيد الخامنئي مستمعا ومصغيا بوضوح للسيد السيستاني، حينما تصل الامور الى مرحلة حساب الكلف والمخاطر، وهي المتعلقة بـ (بيضة الاسلام) التي تدفع المراجع للتدخل وبيان الموقف اللازم، والامريكان سيجدون انفسهم مضطرين ولا غنى لهم عن اعظم زعامة روحية شيعية في العالم للاستماع لها اذا ارادوا فعلا منع الصدام المسلح الاخطر، لكن المشكلة الراهنة ان المرجعية العليا، تحاذر كثيرا بل قد لا تريد الدخول في مثل هذه الملفات الشائكة، كثيرة الكلف، والتي يساء فهمها لدرجة مروعة، ستكون الوساطة العراقية مؤثرة وناجحة اذا تشاور الجميع مع النجف، وعرفوا كيف يبلورون ستراتيجية حل شامل، تبدأ من فتح نافذة للحوار، ثم البدء باجراءات الثقة، ثم الدخول في مناقشة الملفات بلا شروط مسبقة، غير ذلك ستكون الحرب هي المحرك الوحيد للمفاوضات ولكن بعد احتراق
قلب العالم .