ريسان الخزعلي
(1)
في مشهد الشعر العراقي الحديث، مرَّ شعراء أخطأتهم عيون الرصد والذائقة لأسباب عليلة الصدق، عامة وخاصّة، رغم ما يمتلكون من مقوّمات الشعريَّة. والأسباب تلك جعلتهم في هامش المشهد حتى وإن كانوا على مقربة وتماس من شعراء المشهد اللامعين المجايلين لهم.
إنَّ الحضور الشعري بفاعلية يستلزم الكثير من الموجبات التي لا قد لا يُجيدها البعض من الشعراء، ومنها ما هو سياسي وثقافي واجتماعي وتواصلي وكاريزمي وغيرها. وهكذا يكون الهامش مستقراً لتوصيف هذا البعض من دون معاينة النوع الإبداعي وأهميته الفنية. وهكذا أيضاً يلفحه التغييب والتناسي، استحضاراً وتقييماً. والشاعر الراحل عبد القادر العزاوي، هو النموذج المهم من بين الشعراء الموصوفين بشعراء الهامش رغم الأهمية التي يمكن الوصول إليها في أعماله الشعرية الثلاثة: في الرأس قصائد، ولأنك شاعر، بعض شروط يومية.
(2)
في مجموعته الأولى «في الرأس قصائد» تتأكد أهمية الشاعر من خلال كلمات شعراء وأدباء ظهرت على غلاف المجموعة الأخير وفي المقدمة، والكلمات هذه لم تكن لتُكتب أو تُقال لولا الإنصات لشعرية الشاعر، وما كانت أيضاً لو لم يكن شاعراً بالأساس:
1. عبد القادر العزاوي، شاعر يعيش قصائده بجنون فطري ذلك لأنه لا يحمل في رأسه شيئاً سواها، فهي ليست تبريراً لوجوده فحسب، وإنما هي هو.. «فاضل العزاوي».
2. أرى أنَّ عبد القادر العزاوي يُطاول الذين ينقلون «بميوعة» من لغات أجنبية، ولأنه لا ينقل فإنَّ قصائده تستحق الفحص.. «صادق الصائغ - ملحق ألف باء».
3. أهم ما يمكن قوله عن عبد القادر العزاوي في شعره، هو أنه شديد الإخلاص مع نفسه، يُقطّرها في لمحات خاطفة لها القدرة على التمثّل وهي تأخذ قيمتها من هذا التركيز في المعنى، والاقتصاد في العبارة. لا أريد أن أضيف شيئاً لئلّا أُعكّر صفاء الصورة وحيويتها.. «غ. ع. م».
4. وفي الاستهلال التقديمي للمجموعة يقول «كريم الملّا»: عبد القادر العزاوي، عرفتهُ الإنسان الكادح قبل أن أعرفه الشاعر المبدع، وما أروع الكلمات حين تنطلق من أعماق الشاعر لتعبّر تعبيراً أصيلاً عن عمق المعاناة. مأساة الشعر عندنا، أنَّ الشاعر يصرخ فتعود صرخته يتيمة إلى حنجرته.. فهل ستحرّك صرخات عبد القادر العزاوي جانباً من عالمنا الصامت؟
(3)
وفي المفتتح الفني، قصائد «في الرأس قصائد – 1970» قصيرة، غنائية البوح على الأعم، تعكس الهم الذاتي، وأحياناً تستطيل مجساتها إلى ما هو أبعد. قصائد تحمل الكثير من ملامح الشعر الستيني: الشكل، البناء، التشاغل بالتجريد والإيحاء. قصائد تعكس الحزن والخوف والجرح الأبدي وعشق البقاء والمغادرة -هذه الثنائية المؤرّقة للشاعرفي كل زمان ومكان. ورغم أنّها تعتمد شكل الشعر الحر/ التفعيلي، إلّا أنّها تُحيد عنه بتجاوز التقفية الداخلية والخارجية إلا ماندر، كما في هذه القصيدة:
«أتجوّل في رأسي المقعي
فوق العتبة
وأبارزُ صوتي في جسدي
أخشى أن أعبر ظلّي المرتجف الخائف
بأصابع خوفي يكبر غيري
قنوات الحزن: أنا
أقتاتُ بذور الرمل..
من دونكَ يا رأسي الكائن فوق العتبة
مَن يتبعني ينسى موتاه
مَن يتبعني، ويراقبُ ظلّي المفصول عن الرقبة..؟».
ومن قصائده الأخرى التي تُمثّل ملامحه الشعرية/ الفنية التي أشرنا إليها:
«ما زلتُ أُناهضُ جرحي..
أفتعلُ جسدي
وأغامرُ في برق الليل..
أُغامرُ حزناً فوق الثمرة
- من يقرأُ ظلّي يفهمني..
فأنا الطالعُ من رمحِ الأكفان
الراحلُ صوب القتلة.
نتعارفُ: أنت أنا.. رأسُ المقتول أصابعنا..
(4)
عبدالقادر العزاوي، شاعر يحمل الكثير من البساطة والطيبة واحمرار الخجل، وكثيراً ما يغمزونه شعرياً بتوصيف «قدّوري العظيم»..، ولا ينصت لقولهم: ياقدّوري العظيم إنّك تجهلُ كثيراً في «العروض». لكنّه يعتدُّ ويكتب قصيدة بعنوان «القصيدة» صحيحة العروض:
«الريح مهر العابر الأوّل، والماء مهر العابر الثاني
فصدّقوا خواتم المقاتل المُهان، أختارُ موتي في زوايا
الصوت، إنني طوابعُ البريد في رسائل الغريب».
وهكذا، كان شاعراً «يعيش قصائده بجنون فطري، ذلك لأنه لا يحمل في رأسه شيئاً سواها» ولن يضرَّ الشاعر والشعر توصيف «الهامش»..، ففي الهامش يكمن أحياناً توضيح
المتون.