المعركة الستراتيجية لتأمين الكابلات البحريَّة
نيما خرّمي
ترجمة: أنيس الصفار
أزمة البحر الأحمر الأخيرة، التي اجتذبت هجمات قوات جماعة الحوثيين اليمنية الانظار إليها عندما باشرت باستهداف السفن التجارية، سلطت الأضواء ايضاً على مسألة حساسة هي هشاشة وضع الكابلات البحرية الممتدة تحت مياه البحر الأحمر ومدى سهولة تعرضها للتضرر والخطر. كما اجتذبت ستراتيجيات حلفاء إيران في المنطقة الأنظار أيضاً. فبالنسبة لهذه الكابلات غدت ضرورة أساسية للاتصالات والتجارة الرقمية بين الاتحاد الأوروبي وآسيا، وأي اختلال في أدائها قد تنجم عنه تأثيرات شديدة على الاقتصاد العالمي والأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي. ومن هنا فإن هذه المقالة تستطلع الأهمية الستراتيجية لهذه للكابلات البحرية ومحدودية القدرة على اصلاحها داخل الاتحاد الأوروبي، وتستكشف المقالة التحديات الجيوسياسية التي تجابهها صيانة الكابلات والطرق المباشرة التي بوسعها استهداف هذه الكابلات والنيل منها. تؤكد المقالة أيضاً على أهمية إشاعة الأمن البحري الشامل، وذلك يتضمن حماية الكابلات البحرية وحث حلف الناتو على اتخاذ نهج موحد، فضلا عن استطلاع مسارات بديلة للبيانات عبر القطب الشمالي لتحسين مستوى المنعة الرقمية.
محذورٌ لا يقل أهمية
أثارت الأزمة الراهنة التي يشهدها حوض البحر الأحمر المضطرب سياسياً قدراً كبيراً من السجال والمناظرات التي ركزت بالدرجة الأساس على الآثار المدمرة لهجمات جماعة الحوثيين على السفن التجارية، واستعانة إيران المبتكرة بالحلفاء كجزء من ستراتيجية دفاعها المتقدم. في خضم هذا الجدل كان هناك محذور آخر لا يقل اثارة للقلق ولكنه لم يحظ بالاهتمام الكافي، ذلك هو محذور تعرض الكابلات البحرية في البحر الأحمر للضرر المتعمد وانعكاسات ذلك على الاقتصاد العالمي والامن الاقتصادي لحلفاء الولايات المتحدة في الاتحاد الأوروبي.
مهما قيل عن الأهمية الستراتيجية للكابلات البحرية الممتدة تحت مياه البحر الأحمر بالنسبة للربط التواصلي بين آسيا والاتحاد الأوروبي فإنه لن يكون اسرافاً ولا مبالغة، لأن هذه الكابلات تمثل العمود الفقري للاتصالات الرقمية والتجارة بين أوروبا وآسيا، الأمر الذي يجعلها اهدافاً ذات اولوية من قبل الأطراف المعادية للغرب التي تسعى لإيقاع الارتباك والتعطيل. فمن المنظور الاقتصادي يبرز اعتماد الاتحاد الأوروبي المكثف على الاتصال السريع الموثوق مدى أهمية حماية شبكات الكابلات البحرية. ومع اعتماد اكثر من 70 بالمئة من الشركات التي تتخذ من الاتحاد الأوروبي مقراً على الخدمات عبر الانترنت، مثل “حوسبة السحابة - كلاود”، يغدو واضحاً ان اي انقطاع طويل الأمد فيها ستترتب عليه تداعيات بالغة الأهمية بالنسبة للأمن الاقتصادي للاتحاد الأوروبي والتجارة العالمية. ونظراً للدور المركزي الذي تلعبه شبكات التواصل الاجتماعي لدى المجتمعات الأوروبية، المعتمدة بقوّة على النشاط الرقمي، فإن الحياة الاجتماعية يمكن أن تضطرب بشدّة إذا ما تعرضت هذه الكابلات او محطاتها الارضية للهجوم.
عواقب الانقطاع المطوّل
أي انقطاعات مطوّلة تقع يمكن ان ترتدّ بعواقب وخيمة على أمن الاتحاد الأوروبي بشكل عام، لذا فإن سهولة انكشاف هذه الكابلات أمام الإضرار المتعمد، ينبغي أن تكون مدعاة لقلق لا يقل شأناً عن المخاوف الحالية الأخرى المتعلقة بهجمات الحوثيين على السفن التجارية التي تمخر العباب في البحر الاحمر. والسبب من وراء هذا التأكيد ذو شقين.
الشق الأول – رغم أن التهديد المباشر قد يبدو بعيداً يتعين على صناع السياسة والمخططين الستراتيجيين في بروكسل، أن يعوا حقيقة المخاطر المحتملة المرتبطة بعوامل مثل الوفرة الفائضة من شبكات الكابل، مقارنة بمحدودية الامكانيات لدى الاتحاد الأوروبي على الاصلاح، واحتمال حدوث هجمات متزامنة على الكابلات البحرية والمحطات الأرضية في آن معاً.
هناك عشرة أنظمة للكابلات تفترش قيعان البحر الأحمر وقناة السويس والبحر الابيض المتوسط والمحيط الهندي، وهي مجتمعة تشكل قلب التواصل الرقمي بين البر الأوروبي الرئيسي والكتل التجارية في جنوب وشرق آسيا. العامل المثير للقلق بوجه خاص في هذا السياق، هو ضيق قدرات الاصلاح لدى الاتحاد الأوروبي، الى جانب التسييس الأخير لمشاريع الكابلات، وتلك بمجملها نتاجات جانبية سلبية للتنافس الجيوسياسي الذي تتسارع حدّته بين الولايات المتحدة والصين.
في ما يتعلق بالعامل الأول فإن أعمال الإصلاح تسند الى شركاء خارجيين كجزء من معايير الصناعة المدفوعة بالرغبة في خفض التكاليف الى جانب رفع الكفاءة. فبموجب “اتفاقية صيانة الكابلات في البحر المتوسط”، التي تغطي شبكات الكابل العشر الرابطة بين الاتحاد الأوروبي وشرق آسيا وجنوبها، تتولى سفينتان متخصصتان؛ ترسو إحداهما أمام سواحل إيطاليا والاخرى فرنسا، تنفيذ أعمال التصليح. ولكن نظراً لسعة مساحة التغطية الجغرافية تبقى قدرات الإصلاح محدودة بدرجة ملحوظة، الأمر الذي يزيد احتمال تطاول فترات الانقطاع في حالة وقوع هجمات منسقة متزامنة.
دخول السياسة على الخط
يشكل انخفاض مستويات الوفرة الفائضة والافتقار المفجع لأنظمة الكابل البديلة التي تتيح إمكانية إعادة توجيه تدفق البيانات بين الاتحاد الأوروبي وشرق آسيا وجنوبها تحديا مماثلاً، إن لم نقل أشدّ قتامة، إذا ما تعرضت كابلات البحر الابيض المتوسط للعطل والتوقف عن العمل. كما أن تدخل السياسة في مشاريع الكابلات قد لا يكون لوحده من تبعات الهوة الرقمية المتصاعدة بين الغرب والصين، لكنه مع ذلك أدى الى تفاقم هذا الضعف، ومن المرجح أن تُسفِر مبادرات مثل “الشبكة النظيفة” عن تقليص مشاريع الكابلات المستقبلية، وبالتالي استمرار اعتماد الاتحاد الأوروبي على عدد محدود من الشبكات، وبالتالي استمرار تعرضه لمشكلات تذبذب وانقطاع الخدمة. من الأمثلة الواضحة المعبرة عن هذا المأزق هو المصير الذي انتهى إليه نظام الكابل الذي يدعى “جنوب شرق آسيا- الشرق الأوسط – أوروبا الغربية 6” ويختصر بالرموز SEA-ME-WE 6، والذي توقف العمل به بسبب معارضة واشنطن لمشاركة الصين فيه على الرغم من أن سلفه SEA ME WE 5 كان مسعى مشتركاً ساهمت فيه شركات أميركية وصينية.
(ملاحظة: SEA-ME-WE 6 نظام كابلي للاتصالات تحت البحر باستخدام الألياف البصرية قيد التنفيذ مهمته نقل الاتصالات السلكية واللاسلكية ما بين جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا الغربية. بدأ العمل به مع مطلع العام 2022 وكان متوقعاً ان يصبح جاهزاً للعمل بحلول الربع الأول من العام 2025 – المترجم)
قد يبدو إلحاق الضرر بالكابلات تحت البحر للوهلة الأولى أمراً معقداً، بيد أن القيام بمثل هذا النشاط ليس بالمهمة المعقدة. فالكابلات تحت البحر يمكن استهدافها من خلال وسائل مختلفة، لكن اكثر الطرق شيوعاً هي التخريب المادي المباشر. يتضمن الاسلوب الأقل تعقيداً هنا “تسليح” مراكب مدنية بمعدّات عادية أعيد تكييفها لمثل هذا النوع من الاستعمال للتسبب بأضرار متعمدة، مثل المراسي. هذا النوع من الهجمات منخفض التكاليف ولا يتطلب إمكانيات معقدة تحت البحر. أما الاسلوب الآخر من الهجمات المادية المباشرة فيعمد الى استخدام المتفجرات تحت البحر، وهذه يمكن أن تتولى تنفيذها اطراف عديدة مختلفة نظراً لسهولة استخدامها نسبياً. تتضمن هذه الطريقة نشر عبوات بحرية ناسفة محوّرة، وقد اتقن الفرع البحري التابع لفيلق الحرس الثوري الإيراني استخدام هذه القدرات في مضيق هرمز نظراً لكونها ستراتيجيات واطئة الكلفة.
خطر ستراتيجي
نخلص من ذلك كله الى الآتي: إن تكن المرونة والقدرة على التحمل هي عماد الاستقلال الرقمي، فإن زعزعة الاستقرار الجيوسياسي في مناطق معينة، كالبحر الأحمر، سوف تمثل خطراً ستراتيجياً كبيراً لم يوفَ حقه من الدراسة. هنالك بالتحديد قلق حقيقي من الآثار البعيدة وغير المباشرة لزعزعة الاستقرار السياسي، حيث إنه من الممكن أن تنظر أطراف لا تنتمي الى دولة معينة، ومعها الدول الداعمة لها، الكابلات البحرية عند مفترقات البيانات الرئيسية بوصفها أهدافاً مشروعة للانتقام كرد على ما ترى فيه سياسات أو إجراءات لا مشروعة ولا قانونية من وجهة نظرها.
يعتبر البحر الأحمر، بصفته ممراً حيوياً يصل المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط، مثالاً مهماً على مفترقات البيانات تلك، فهناك يكمن خطر بأن يعيد الثوار الحوثيون تحويل تركيزهم عن السفن العابرة ليستهدفوا الكابلات البحرية بدلاً منها باعتبارها شكلاً من اشكال الهجوم الخفي الأوطأ كلفة. ليس هناك من مؤشر حالياً ينم عن وجود نية لدى القيادة الحوثية أو الحكومة الإيرانية على الضلوع بمثل هذه الاجراءات، ولكن من خطل الرأي استبعاد احتمال وقوع مثل هذا السيناريو مستقبلاً.
فضلاً عن ذلك فإن مجرد وضع هذه الأعمال العدائية في الحسبان يصلح تذكيراً حاسماً بأن الأمن البحري في عصرنا الرقمي المتسارع يحتاج الى دوام المراجعة وإعادة النظر، لا سيما وأن الأمن البحري على ما يبدو لم يعد مقتصراً على صون خطوط الاتصال البحري فحسب، بل يشمل أيضاً حماية وتأمين ما تحت الماء، وبضمن ذلك الكابلات البحرية والموارد المعدنية المهمة الضرورية لإنجاز التحول الأخضر. كل هذا يسلط التركيز على الحاجة الى نهج شامل متكامل للأمن البحري يتصدى للتهديدات التقليدية والناشئة.
عن مجلة “ذي ناشنال إنتريست” الأميركية