عرض سياسي تاريخي لشارع في مدينة

ثقافة 2024/03/11
...

  باسم عبد الحميد حمودي

صدرت لزيد الشهيد روايته الثالثة التي تؤرخ دراميا لمدينة جلجامش العراقية الحديثة المنبسطة على ضفتي الفرات الجنوبي تحت عنوان «شارع باتا». 

صنعت مدينة السماوة تاريخها الحديث من جدل الصدام بين النهر المتوثب والصحراء المجاورة،  التي تقود الرائي إلى عالم يتصل بالمدينة، لكن له شخصيته البدوية التي أنبنت متجاوبة مع حرية الأرض وجمال الفضاء الصحراوي.

 لم تعالج هذه الرواية فضاء البداوة الذي اختص به الراحل حامد فاضل، ودخل زيد الشهيد في حواري شارع باتا الرئيسي، ليقودنا معه إلى شيء من العرض السياتاريخي المتتابع خلال حياة المدينة عبر هذا الشارع.

بعيدا عن هذا الشارع الذي يؤرخ لحياة المدينة، نقول إن شركة «باتا» ترتبط بتوماس باتا (4نيسان1875- 12تموز1932) وشقيقه انطوني واختهما «أنا» وهم من مواليد قرية زيلين في جمهورية تشيكيا، والذين أسسوا شركة باتا للأحذية في سويسرا وبنوا لها فروعا في كل دولة.

عرفت بغداد حتى السبعينيات شركة «باتا» بفروعها المتعددة في الكرخ والكرادة الشرقية وشارع الرشيد، وظهرت فروعها في كل القارات والمدن الرئيسة بكل دولة، وكان منها مدينة السماوة، وفرع الشركة فيها وسط الحي الذي ارتبط مع مجموعة الأزقة والدكاكين المجاورة.لنقتطف من رواية زيد الشهيد بعض المقاطع عن هذا الشارع، الذي اختاره مهادا لتفاصيلها، فهو يقول في ص99  «ولأن شارع باتا كون مصغر أو بلد يجمع أعضاءه، أو مدينة تحتفظ بهويتها، فإن لمكوناته تاريخا ولزمنه فحوى حكايات»، 

ثم يضيف بعد تعداد أهمية وعوامل حيوية هذا الشارع، بالقول «اتخذ شارع باتا له هوية لا تحيدعنها شوارع مدن العالم»، حيث كشف عن أناس الشارع - المدينة بكل نشاطاتهم الفكرية والجنسية والاجتماعية، متحركا من شخصية إلى أخرى في تفصيل متكامل للفرد موضع العرض والتجسيد: المقاول حنش وهو يدبك مع صغيرين من البدو يرقصان على ناي بدائي ويغنيان، نماذج من المثليين، ناطور المكي ودفتره الشهير في وفيات السماوة، ياسر الذي انفلت الى باريس وصاحبه عقيل الذي تحول من رسام إلى ناقد تشكيلي مرموق، وعبد الستار الذي تحول الى راقص في مسرح البولوشوي، اضافة لحكايات الكثير من الشخوص، الذين كانوا جزءا من تاريخ المدينة أو كانت السماوة مهاد حياتهم. كانت الهجرة تشكل ظاهرة واضحة في سلوك الكثير من شباب الشارع، حيث هاجر هاشم عبد الكريم الى الدانمارك بعد خسارته لقلب  شهلاء التي لم تغامر معه بل تزوجت شاهين، تاجر المرحلة الجديدة التي مكنته من التجارة بالحشيشة ، أضافة الى أعمال شاذة عن السياق الاقتصادي الطبيعي الى الظهور بمظهر الثري الجديد. صور زيد الشهيد ضياع زمن البراءة، حيث كان الشباب من المتزوجين حديثا ينطلقون في مجاميع صغيرة ايام العطل  للجلوس جماعات في بساتين السماوة، حيث يتناولون طعامهم ويسمرون في وقت كانت فيه هجرة نوفل - سامر - علي الى لندن قد حققت نجاحا تجاريا مرموقا.

 الراوي العليم الاستاذ حمزة الذي يعمل على ترجمة رواية الكاتب الدانماركي بيارن رويتر التي نشرها تحت عنوان «خاتم الأمير البعيد»، حيث يتابع القارئ الجهد الكبير الذي يبذله المترجم لاكمال هذا العمل الذي أرسله له صديقه هاشم  بالاتفاق مع المؤلف.

 تبدو معاناة المترجم اليومية مع العائلة ومع الوقت المستنزف للعمل أو للراحة تشكل  ظاهرة رصدتها الرواية في معظم فصولها التي تعايشت مع «السماوة»، مدينة حية تتجاوب مع الاحداث  الخارجة وطنيا وعالميا، لكنها أيضا مدينة فكر معظم  شبابها  للحصول على حال أفضل مادياً وثقافياً، وبذلك كان هذا التأشير السلبي في تجارب الشباب قد شكل وثيقة اجتماعية صادفتها الكثير من مدن العراق في موجة العنف الطائفي وغيره من الظواهر  السلبية.

 لم يترك زيد الشهيد أدق التفاصيل في حيوات الشخصيات الوفيرة التي اختارها من شارع باتا حتى «الأوشام»، التي نقشت على صدور وأجساد العشاق، بل وذكر بعض العبارات المدونة، في وقت كانت فيه رواية «شارع باتا» تشكل الركيزة الثالثة لرسم تاريخ مدينة السماوة في أدب الرواية العراقي، بعد روايتيه السابقتين «أفراس الأعوام» و»تراجيديا مدينة». 

كان هدف الروائي الشهيد تجسيد صورة ملحمية درامية التي يعشقها ظاهراً وباطناً، وكان نجاحه بينا  تماما.

لم تقف رواية «شارع باتا» عند زمن محدد بدأته منذ هروب القوات العثمانية عام 1917 عن المدينة ودخول الانكليز عتباتها، مروراً باجزاء من تاريخ الحكم الملكي، وأجزاء من فصول الحكم الجمهوري المتباين التوجهات، حيث شكلت الحرب والمجاعات أجزاء منه، وشكل العسف والظلم والدكتاتورية أجزاء أخرى لم تنته بظاهرة هجرة الشباب، مثل هاشم المسافر وجوادين، بل بخوض حرب دون كيشوتية مع ثلاثين دولة قادتها أمريكا، ليغدو العراق دولة تحت الاحتلال مرة أخرى، وهو يعيش أوضاعا اجتماعية وسياسية جديدة صورت أجزاء منها. 

هذه الرواية البانورامية التوجه والتجسيد التوثيقي للكثير من التفاصيل الاجتماعية والثقافية الحية، وبذلك كان «شارع باتا» تجربة مضافة لهذا النوع من روايات المدن المهمة في تاريخ الرواية العراقية الحديثة.