عن اللغة.. لكي نفهم ما يجري

ثقافة 2024/03/11
...

  ياسين طه حافظ

في هذه الكتابة، محاولة، فقط محاولة، لإيجاد برنامج عمل ونحن نريد الوصول إلى مكنون الظاهرة. لا في حياتنا ومفردات كسب العيش وما يسبب وما ينتج، ولكن أيضاً في فهم اللغة وفهم الأدب وفهم الفن. فنحن نتجاوز العادي إلى الأعلى منه في مسعى قد ينجح وفي أي لحظة قد يخيب. فأنا أرى بعد هذا العمر، أن النظريات هي مشاريع استكشافات خارجية للتاريخ، أعني تواريخ موضوعات اهتمامنا. هي افتراضات أصلا. وهي لاتظل متطابقة ولا حتى ذوات صلة بطبيعة اللغة كدراسة ألسينة، ما دمنا أردنا الحديث في اللغة. كما أنها ليست ذات صلة بطبيعة الأدب كدراسة بنيوية أو تأويلية.. ليست النظريات هي التي توفر لنا ذلك. هي غالبا ما تكون افتراضات لمعالم غير أكيدة وفي طرق متزايدة التشعب..

ولهذا فإنكار طابع خاص لكل من اللغة والأدب والفن يجعلنا في الافتراضي وفي المقترح. ذلك لأن لكل واحد من الثلاثة وجوداً خاصا ووجوداً آخراً من تركيبين، آلي و ذهني. هما ليسا تركيباً آلياً أمكنت السيطرة عليه وتحديده. ولكن وراءه أو فيه، تركيباً ذهنيا خاصاً به. في دراسة اللغة أو الفن أو الأدب نخرج عادة من العموم لكي نكون ضمن الموضوع لا خارجه.

قد يكون ما سبق، عدم التحديد والسيطرة، سبباً في تنوع التنظير لكنه سبب وحماية أيضاً. حماية ليظل الموضوع منفتحاً على الاجتهاد وعلى الرؤية المتجددة. وهنا حصلنا للغة وللأدب وللفن على امتياز التطور وأبقينا هذا الامتياز أو هذا التطور مستمرّاً. عدم السيطرة الكاملة هنا مكسب كبير. اختلافات هذه الرؤى بعضها عن بعض هو الطريق للمكاسب العقلية، لمكاسب البشرية العظيمة. وفيها ضمان لتجدد آفاق تفكيرها.

إن اعترافنا بالمختلفات لا يمنع قطعاً من أن تكون بينها مشتركات. وإذا كانت هذه المشتركات غير واضحة في الفنون، فهي واضحة كل الوضوح في اللغة. اللغة تشترك بالكثير من مبادئ التنظيم العامة. 

هناك مسألة نادراً ما تستوقف الباحث، وهو رجل عملي آنيّ، تلك هي أن الفن واللغة والأدب- لا سيما الشعر- والفنون، يمكن أن توجد في الذهن قبل أن توجد في الفضاء الطبيعي، سواء كان الفضاء ورقاً، بالنسبة للكتابة، أو هواء بالنسبة للموسيقى أو أرضاً أو لوحة بالنسبة للرسم.

وجودها الذهني الذي تحدثنا عنه، ليس هو تماماً بعد التنفيذ. أيضا، لا قوة تحدد مصادره وأين تمتد جذوره. أيضاً، لا أحد يحدد ما استفزَّهُ وحركه، ليكون حاضراً أو فاعلاً. فإيحاءات أو إشارات هذا الحضور خافيه أو غير أكيده الدافع. فمن تجربتي الشخصية أن القصيدة، مثلاً، قد تحركها أو تشير لها جملة في سطر أو سطر في صفحة أو مقولة لشخصية روائية أو سؤال بطل أو بطلة في فيلم أو احتجاج إنسان في مقهى أو نظرة امرأة أو رجل في باص وأنا صامت لا أفعل شيئاً وعيناي للفراغ.. العوالم الذهنية المختلفة تتصل ببعضها، تنبثق وتجري لمصباتها كالأنهار. والمصب هنا لم يتقرر سلفاً ولكن تتدخل المكونات الذهنية والظروف الخاصة لصاحبها فتحرفه أو توجهه.

التحديدات الساذجة لمصدر العمل الفني، هي تحديدات صناعية تليق بالحِرَف وموادها الخام وليست منطقية أبداً ولا معقولة بالنسبة للادب والفن. واللغة كتصورات تكوينية وايحائية تقوم على أسس خارجية. ولهذا تخلفت الدراسات الحديثة قليلا في هذا الجانب بسبب ما تواجهه من عماء في خلفيات الموضوعات وغرابة التفرعات الجديدة وما تواجهه من ضغوط «يومية»، من تلك التي يمارسها الارث الثقافي ومفاجآته وسعة الفجوات بين منجزاته.. فكل ما يكتمل لنا من جديد أو يختلف هو نتاج حالات «تمردية» وكل تجديد تمرد من نوع ما.

انجازاتنا ليست مكوناً جاهزاً متيسراً. صار لنا بعد حضور بنى متتالية، طبقات سُلّمية أو تكامل وعي. وكل هذه مخزَّنة بنوع من التنظيم في عقولنا، أو في خزاناتنا الثقافية، نحتفظ بها ونسمح بحضورها في ذاكرتنا ضمن «أحوال» مرتبطة بـ «نا» وبمضمون تلك المخزونات ومساسها بحاجتنا المستجدة. وهي لم تختزنها سدى ولا هي جاءت عفواً. هي مكاسب وعي ومعرفة توالت ونحن نعيش. وهنا نقول: لا تأليف حرّاً للأعمال، سواء كان العمل رسما أو قصيدة أو بحثاً يتضمن منظوراً جديداً. المعطيات تُعطى باقدار ومستويات، وبدلالات ومديّات، ينظمها، بصورة غير مباشرة ولا ارادية احياناً، مدى الحيوية و «الحال» التي نحن فيها وما قد تحفّزت مشاعرنا وأفكارنا له. الحدود الذكية نفسها تختار أو تحفّز «البازغ» الجديد. والمنتَج أو «الحاصل» لا يكون هو نفسه لدى اشخاص مختلفين ولا لدى الشخص نفسه في حال اخرى أو زمن آخر. ليس سهلاً فهم الابداع وليس سهلاً فهم اللغة المعبرة وما يجري. للقوى الداخلية طرائق عملها النظامية وغير النظامية. المهم إنها ليست تحت السيطرة والتوجيه دائماً. ولسنا دائماً نتحكم فيها ولافيما سيصير اليه العمل. كم تغيرت مسيرة قصيدة أو رواية أو اتجاه بحث، وكم انتبهنا لحضور طاريء لم نفكر فيه ونحن منشغلون في موضوع آخر. الاستقرار قد يمنح، لاسيطرة، ولكن نوعاً من المراقبة أو التوجيه، فتقل هذه المعترضات الطارئة (اسميتها في قصيدة لي بـ «الشوائب» وجعلتها عنواناً وهي ليست شوائب إلا في مسار العمل، هي قد تكون فاعلة ومهمة ومنطلقات إبداع أو تجديد. لكن هل هي شوائب أم مقتنيات صندوق مغلف يأتينا منه بعض اللمعان؟ وهل لهذا رد فعل على أحوالنا وتفكيرنا أو على ثقافتنا المضافة أم هو يعمل مستقلاً عنا وتحت مؤثرات غائبة إلا ما نحدس أحياناً أو نظن؟

معلوم هي حياة متكاملة خفيّها وظاهرها، وسيرة الإنسان الاجتهادية في الفكر والثقافة والفن لا تفتقد المشاركة بين الاثنين. من هنا الدعوة لذخيرة خصبة والدعوة لمزيد من التثقيف، لنحصل على المزيد من المشاركة والمزيد من المضاف لحضورنا الحيوي ضمن تلقي وانتاج الثقافة.

ومن هنا أيضاً، لا يجدي الغريب مضافاً قسراً الى كتابتك. فما تستلفه من غير نسب أو عائدية لك، يظل غريباً ويظل غير فاعل وغير محفِّز، وقليلاً ما تستجيب لاستقباله المِلكيات الخاصة في الذاكرة. السرقة الادبية، مثلاً تظل واضحة عليها الغربة في عالمها الجديد ولا قدرة لها على منح الكاتب أو الفنان جديداً لأنها بلا حميمية انتماء. فلا الذاكرة تتفاعل معها ولا هي تستجيب لأي من المحفزات، لا صلة قربى حقيقية بينهما. وقد لا نعزو ذلك إلى أسباب ذاتية الاجواء، بل نستعين بالالسنيين، ليقولوا لنا ما مفاده اختلاف المستوى الدلالي لدى الاثنين، ولعدم تساوي المستوى التركيبي في اللغتين، لغة المقتبس وتركيبها الذهني ولغة الكتابة وتركيبها الذهني. يجب الانتباه لاختلاف أو لغربة المضمون الدلالي الطاريء، ولنقول بعد ذلك: هو اختلاف وراء ثقافتين!