تعليق الخلاص بمشجب الكتابة

ثقافة 2024/03/12
...

  جينا سلطان

    اختط الروائي البرازيلي خوليو كورتاثار في روايته {الحجلة/ لعبة القفز داخل المربعات}، نمط الرواية داخل الرواية، فحافظت النسخة الأطول على الشكل الكلاسيكي وغاصت الثانية في أعماق الشخصيات، وأسفرت عن مغزى صراعها لاجتراح بصمتها في لجة الضياع الوجودي الحاد في ستينات القرن الماضي. ثم خفف الروائي التشيكي ميلان كونديرا وقع الفلسفة ليتلبس النمط ثيمة الحلم داخل الحلم في رواية {الحياة هي في مكان آخر}، ليكثف الروائي الاسباني خوسيه ميرينو في رواية {الضفة المظلمة} الأحلام ويضاعفها في حكايات متشابكة جعلت الرواية ثمرة إرادة صريحة بالكمال.
    اتكئ الروائي المغربي شعيب الحليفي إلى نمط الكتابة على هامش الكتابة، بحيث جسدت الروايات الثلاث المصاغة بحرفية واتقان داخل نص “تراب الوتد” انكسارات اللهفة المذبوحة.
بينما حاول مواطنه عيسى ناصري في رواياته الثلاث المتداخلة داخل نص “الفسيفسائي”، محاكاة دهاليز ألف ليلة وليلة مستلهما فعل القتل، ليؤشر إلى انتهاء دور الروائي الخلاق واستبداله بأنماط الذين شبه لهم أنهم مبدعون، فيستولي القاتل تهامي على ثلاث روايات، يجبل منها فسيفساء الحنين إلى زمن غابر، يعتلي متنه البطل الأمازيغي ايدمون، بوصفه ثائرا ومدافعا عن حق الإنسان المقتلع من أرضه في الكرامة والحب.
يبتدئ الناصري نصه بمشهد محقق يستغرق في قراءة رواية حديثة حتى ينهيها، ليكتشف أنها تدور عن جريمة القتل عينها التي حقق فيها شهورا طويلة دون طائل، إذ لم يجد في مسرح الجريمة، سوى جثة الأمريكية أرديانا وظلال واهية لعبور محتمل لقاتل داهية.
وكأن المحقق لا يخفي إعجابه بالمجرم، فيصفه بمبدع جريمة زرهون، قبل أن يضيف بأن الرجل الذي تتجه إليه أصابع الاتهام هو نفسه جامع المخطوطات الثلاث المشكلة لرواية الفسيفسائي؛ “ليالي وليلى، والفتى الموري، وباخوس في العيادة”.
فهل يستنسخ القتل الرمزي للمبدع عند إميلي نوثومب في روايتها “نظافة القاتل”، وفكرتها عن القراء الضفادع الذين يخشون البلل، بمعنى المخاطرة بالغوص بين تلافيف النص.  
في رواية “ليالي وليلي” تتعرف أرديانا التي قدمت إلى المغرب مسحوبة خلف حلم من فسيفساء، إلى جواد الأطلسي، الكاتب الواعد والمرشد السياحي الموثوق في متاهة الفسيفساء.
فتنبت بينهما صداقة شفيفة تدفعه لسرد تفاصيل غريبة من حياته، تشكل مزيجا من وقائع وأحلام وسرنمات تبعث على الدهشة. فتتلقفها بحاسة كاتبة وبذائقة قارئة لتسكنها ذاكرتها، قبل أن تسربها حبرا إلى واقع الورق، فتدلج إلى عالمه الداخلي، وتسرده تارة بصوتها، وطورا تسلم إليه دفة السرد ليتولى زمام الحكاية. بالمقابل، يقبل جواد بدور الكاتب الشبح المكلف بكتابة رواية تستلهم فن الفسيفساء الروماني، وتتخذه مدخلا للبحث عن الفكرة والحقيقة.
وتبتدئ رواية “الفتى الموري” بحلم عن عاشقين يتلبسان لاحقا بشخصيتي سيلينا وإيدمون، وخفافيش الظلام التي تتسربل بلبوس الحداد المتحرش، والجندي الروماني المتوحش الذي يسلب ايدمون رجولته. وتتكئ على المقارنة بين أسلوبي الحياة اليوناني والروماني، إذ يمثل الأول أسلوب النبلاء الذين أرسلوا التقاليد الأدبية والفنية والرياضية لتشذيب النفس وترويضها، بينما يعبر الثاني عن نمط محدثي النعمة، الذين مالوا إلى التطرف في كل شيء، بعد أن أطلقوا عقال الوحوش النائمة في الأعماق، وهو حال المحتوى الذي تحرص الثقافة السائدة على تقديمه.
تحمل الرواية الثالثة عنوان باخوس في العيادة، وتمثل مذكرات طبيبة نفسية تعاني الارهاق وانخفاض الروح المعنوية، مما يجعلها فريسة الاكتئاب والتوتر واختلاط مشاعر التعاطف مع المرضى بالإحساس بالفشل. وتبرر حاجتها للتدوين بمصادفتها لحالتي عياش، الذي كان واحدا من الحراس الثلاثة القائمين على حراسة الموقع الأثري في وليلي، والمدرس تهامي الذي يكنى بباخوس، تيمنا بإله الخمر.
كتب تهامي روايته الأولى “زلة قلم أحمر” ونشرها قبل موت طفله بشهرين دهسا تحت عجلات سيارته. وتحكي الرواية عن نحات يقتل طفله، ليتزوج من رسامة حسناء لم تستسغ أن يكون لزوجها المستقبلي طفل من امرأة أخرى، فتهديه في بداية عشقهما لوحة “ايفان يقتل ابنه”.
فتقود النسخة المقلدة للوحة المحققين نحو القاتل، لكن مقتل طفل تهامي يسجل تحت بند التسبب بالموت. أما قتله للكاتبة الأمريكية ارديانا وسرقته لروايتها ليالي وليلي، فيتحول عبر دمج الروايات المسروقة إلى نسخة محسنة عن روايته السابقة والفاشلة.
يزهر حلم الفسيفساء بين أصابع جواد مدادا، فيسقط شغفه على كاهل ايدمون الذي يدركها باعتبارها بهجة تتيح للعين والأصابع اللقاء على مقربة من التخوم المسورة للجمال الحقيقي، فيتضافر جهداهما على الادلاج في سراديب المعنى. بالمقابل، تنقذ صنعة الفسيفساء تهامي من طفولته القاسية المؤطرة بتعنيف الأب لكنها لا تجنبه ممارسة السادية، فيصبح مهيأ لارتكاب القتل.
يضع تهامي نهاية لمذكرات “باخوس في العيادة” بعد استيلائه عليها، ويعزو لصوصيته إلى المكر المتأصل في الرجال حين يتعلق الأمر برغبة الاستحواذ على عالم الأنثى. فتملك جسدها وحفنة من لياليها وكلماتها العاشقة، لا يكفي. بل يمتد طمعهم الآثم حتى يطال شغفها ذاته، فيسعون لتجريدها منه، ومن كل أسلحتها لإبقائها دائما في حاجة إليهم، خشية أن تستغني عن خدماتهم. وبذلك يسوغ سعيه للحصول على مذكرات طبيبته النفسية، معترفا بقدرتها على تصور ما عجز عنه، ويعجز عنه كثيرون ممن علقوا خلاصهم بمشجب الكتابة.
تنتهي النصوص الأدبية الثلاثة بشكل حيادي مجرد عن العواطف، لتحتوي ضمنيا على دمغة السارق القاتل. ويضاف إليها ملحق قصير بقلم تهامي يتكئ فيه على عبارة الشاعر الفرنسي إدغار آلن بو: “وفاة امرأة جميلة هو حتما الموضوع الأكثر شاعرية في العالم”، في إشارة إلى قتله للكاتبة أرديانا. بالمقابل، يريق الناصري عذرية شخصياته النسائية فوق فسيفساء أحلامه، من الخادمة المورية إلى سلينا وسعاد، فتصبح دماؤهن تكريسا لخلود اللوحة الكونية. فهل دفع عن نفسه تهمة الخلاص عن طريق التعلق بمشجب الكتابة، أم أنه أكدها فحسب؟