زوربا مُقيداً

ثقافة 2024/03/13
...

  علي حبيب بيرماني

لطالما تراودنا تلك الإيماءات التي تجتاحنا من دون سابق إنذار، بأن هناك خطراً مقبلا. من دون أدراكنا مصدر تلك الخواطر، ربما هي صوت داخلي، وربما هي وهم يختلجه شيء ما بداخلنا. لكن الغريب أننا ننصاع خلفه واثقي الخطى بأنه يقيني. لطالما أنقذني ذلك الصوت مجهول المصدر، فربما هو صوت {إلهي} متجذر داخلنا، أو ربما هو صوت {إنساني} متراكم في جوفنا، شيء ما جعله يطفو على السطح. واستحالة أن يكون ذلك الصوت ناتجاً عن العقل لأن هناك عجزاً منطقياً لمثل هكذا حلول.

في رواية “زوربا” لنيكوس كازانتزاكي، تبهرنا شخصية زوربا الماكرة، لما لها من قدرات عجيبة ومبهرة في التعامل مع الأشياء والآخرين، والتي تجعلنا كقراء عاجزين عن تصنيف شخصية البطل وفلسفته، هل هو عبثي يعيش اللحظة ويترك ما عداها، أم أنه إنسان واقعي يفكر للمستقبل، هذا الشخص غير المتعلم،  يتصدر بكونه قدوة لشخصية “الرئيس” المنهمك في القراءة والكتابة، ليتضح بأن هناك عجزاً بائناً للرئيس وخذلان الكتب له إزاء تجربة زوربا الحياتية. من وجهة نظر شخصية كنت أرى كازانتزاكي يريد أن يقول بأن زوربا بطله، كان منصاعاً لذلك الصوت الجشع الشهواني المنتشي بالنساء والخبز والخمرة، أنه يعيش لحظته بإتقان، ويسعى إلى مستقبل يوفر له لحظات مشابهة للحاضر. فإدراكه لخطى الزمن المتسارع الذي لا يحده شيء، أباح له عيش اللحظة، إيماناً منه بأنها لن تتكرر، أو أنها الحياة الوحيدة التي في متناولنا، رغم دعوات الكهنة المعاصرين له بحياة أخرى، يحددها موقفنا من الإله. 

“يا للإنسان من آلة مضحكة! إنك تملؤها بالخبز والخمر والسمك، والفجل، فيخرج منها تنهدات، وضحك وأحلام. إنه مصنع! أعتقد أن في رؤوسنا سينما صوتية كتلك الافلام الناطقة».

أعتقد أن لكل منا زورباه الداخلي، الذي يأبى الانصياع لإملاءات العقل. ينقاد لرغباته الشيطانية، هذه الرغبات الزاهية، التي تتلذذ بها أجسامنا ليتغذى كوناتوسنا الشيطاني ويقوى على الإلهي “إن كل ما هو جميل في هذا العالم قد اخترعه الشيطان: النساء الجميلات والربيع والخنزير المحمر والخمر، كل هذا، إنما الشيطان الذي أوجده، أما الإله الطيب فقد أوجد الرهبان، والصوم، ونقيع البابونج، والنساء القبيحات”. 

لم يكن زوربا بفعله هذا يتمرد على الإله، أو يجعل من نفسه نداً له، لكنه كان لا يفوت فرصة التغذي على أجساد الاخريات، أنه يتذوق ويكتشف رحيق النساء ويتلذذ بتميزهن فليس هناك واحدة تشبه الأخرى، ليكون فضاءً لا متناهياً من اللذات، إن النساء أشبه بالعطور حينما نشم أكثر من عطر لا نميز بينهن، لكن بالتالي أن لكل عطر منهن سمته الخاصة الذي يتميز بها عن اقرانه.

لم تكن هذه الشخصية تؤمن بالحب المعتاد الذي  يجعل من ذواتنا تسمو ، ذلك الارتباط الروحي الذي يجمع شتات الذوات، ويرمم تلك الصعقات التي تسببها الحياة. لم يكن هذا الحب في قاموس زوربا، بل إنه معتاد على السير وراء رغباته واشباعها.

هذه الحاجة إلى الجنس الآخر، أوضحت بأن زوربا مهما تخلص من فك الارتباط من الأعراف والقوانين الأخلاقية، فهو وثيق الصلة وبحاجة إلى الرفقة الأنثوية، التي تظهر في حياته أو في حلمه كما أتخيل أنا.

فدعني أتخيل ابتهاج زوربا وهو يرى، ابتسامة امرأة في حلم عابر، واصفاً لك كما أريد. فلا شيء طبعاً يضاهى بسمة امرأة .

لأن كل الصباحات التي كان يمكن أن تكون مميزة تقتلها الوحدة، وكل الشبابيك والحانات والشوارع لا تساوي شيئاً بدون بسمة أنثى، كل النجاحات المتكررة لا تساوي شيئاً بدون الرجوع إلى أحضانهن. متى ما وجدنا أنفسنا في قلوبهن، قهرنا اغترابنا، ووجدنا ذاتنا الواهنة. أناملهن وحدها كفيلة بإنعاش إدراكنا الحسي، وترميم جراحنا وهشاشة كياننا الواهن. 

رغم الحاجة الماسة للرفقة الأنثوية بقى هذا المتسلط يفرض هيمنته، لذلك أن زوربا كما أعتقد أبرز معبر عن السلطة الذكورية على وجه التحديد، الذي يقتات على النساء في التلذذ وفي تحقيق فرادة الذات من خلال سطوتها الكبيرة لسلب المتعة من دون التفكير في منحها. أو استبدالها. إذ إن همَّه الأول هو تغذية شهواته من أجساد النساء، وكذلك الخمور والطعام، ليستمر في فرط الملذات دون مقابل يُذكر.

في داخل كل منا زوربا، لكنه محاط بالأسوار ومُقيد بالأصفاد التي يفرضها المجتمع الذي يعيش فيه، ما أن أعطيناه فرصة للخروج رفض العودة إلى ما كان عليه. 

هذا الكائن الذي يعيش في داخل كل فرد منا، غول يلتهم ملذاته بإتقان مُبهر، يصطاد على مهل، يشرب ويأكل بتلذذ، ما أن فككت أسره حتى يلتهم كل ما أمامه.

هذا الكائن الراكد في ذواتنا، سيظهر ذات يوماً محطماً أغلاله وأن لم يجد فريسته عاد لابتلاعنا ببطء على الوتيرة نفسها .