استعادة رينه حبشي

ثقافة 2024/03/13
...

أحمد عبد الحسين
في ثمانينيات القرن الماضي، وقع بين يديّ كتاب لرينه حبشي عنوانه "من أجل فكر متوسطي"، وكان بالنسبة للشابّ الذي كنته غريباً فريداً، فبالإضافة إلى وضوح العبارة فيه، كانت المطالب الأليفة لنا آنذاك حاضرة: الفلسفة الوجودية بأسمائها المبجلة سارتر وياسبرز وتيليش، لكنها عبرتْ إلينا على قنطرة جديدة بناها حبشي برؤية مشرقية ونبرة تكاد تكون عربية وإن كانت مكتوبة بالفرنسية.

كان ذلك لقائي الأول بفلسفة حبشي، ولم يكن فيه أكثر من هذه الدهشة بجديد لم أصادفه من قبل. غير أن لقاءاتي مع كتبه الأخرى فككت لي تلك الدهشة ودلّتني على أسبابها. 

ميزة هذا الفيلسوف "اللبناني المصريّ الذي ولد في 1915 وتوفي في 2003"، أنه يعقد اتفاقاً مبدئياً مع قارئه، أنْ لا حقيقة تسندنا وتشكّل هويتنا، وأن الحقائق إن وجدتْ فهي دائماً على شفا الموت ويجب أن ننقذها نحن، لأن الحقيقة علاقة وتواصل، ولن يكتب لها الحياة ما لم يكن هناك إنسان حيّ يباشرها، فإذا أدار الإنسان وجهه عنها هلكت الحقيقة.

والحقائق لا تراد لذاتها كما هي عند التبشيريين من سدنة الحقائق "متدينين وملحدين وبين بين"، بل هي مطلوبة كمقدمة لاكتشاف الإنسان ـ الشخص، طريقته في إظهار ذاته لذاته، أولاً، كفرادة متميزة، ومن بعدُ إظهار هذه الذاتية تجاه العالم، والجماعة والآخرين. وللتفريق بين الشخص والفرد يورد "جميل قاسم" هذه الجملة الوافية: " أن الفرد لا يرى وجود الآخر، كضرورة لوجود الذات، في حين أن الشخص ينظر إلى الآخر باعتباره حاجة ضرورية لكي يمكِّنه من تحقيق ذاته كمبدع للتاريخ".

هذه التفرقة بين إرادة الحقيقة لذاتها، وإرادتها باعتبارها أفقاً، تخترق كتب حبشي لأنها الفيصل بين أن تتحوّل الحقائق إلى أسلحة قاتلة وموادّ سميّة أو تكون نتاجاً إنسانياً قابلاً للإضافة والزيادة والتعديل وتقليبها على وجوهها. فما أسهل أن تتحوّل الحقيقة إلى عقيدة. يكتب في "بدايات الخليقة": إذا انتصرت عقيدة انكسر الناس.

وبرغم علمانيته التي يصرّ على التصريح بها جهاراً، فإنّ حبشي يرى أن الروحاني بل الدينيّ أمر حتميّ وأوليّ ولا غنى عنه لفهم الذات والعالم إلى الحدّ الذي لخص الحقيقة بجملته هذه: إنما الحقيقة صلاة، لكنّها صلاة تستلزم حضورنا جميعاً لكي تستجاب!.

كتب بول ريكور عن رينه حبشي مقالاً دافئاً للغاية، لأنه أقرب إلى البوح السعيد منه إلى الشرح والتفسير، والسعادة التي أبداها ريكو هي سعادة من التقى بشبيه له في جزيرة ملأى بالخصوم. كتب "إن القلق عند حبشي يذوب في الحنان، والحنان أهم كلمة عنده، لكنه حنان شجاع لأنه رحمة فادية". وكتب "هناك طاقتان تحرضان تفكير حبشي هما الحميمية الشخصية والرحابة الكونية".

الآن، أعني في هذا الفضاء الذي تتهاوى فيه المقررات الفلسفية للحداثة ولوائح الشرائع الإنسانية، ويبين كذبها وسواد وجهها تحت وقع أصوات الصواريخ الساقطة على أطفال غزة، يبدو أن من الضروري استعادة فلسفة حبشي التي هي قنطرة للربط بين ضفتي المتوسط، بين مشرق مبتلى بتحويل الحقائق إلى عقائد، وغربٍ احتكرت القوة حقائقه وعقائده وهيمنت عليهما.

نحن أحوج ما نكون إلى هذا الصوت الذي يهمس بالحقيقة باعتبارها "الرأفة التي تريد أن تغيث الآخر وأن تزيده غنى فترقى به إلى ينبوع وجوده".