كمال عبد الرحمن
التفكيك من المصطلحات الغامضة التي توحي بالتفتت والبعثرة والضياع، وفي مقابل ذلك هو مصطلح غني ومليء بالدلالات الفكرية، حيث يقدم لنا جاك دريدا مفهومه الخاص للتفكيك، إذ يؤكد أنه «ليس تحليلا ولا نقدا»، كما يعرفه صاحب كتاب «معرفة الآخر» على النحو الآتي «بذر الشك في مثل هذه البراهين ويقوض أركانها ويرسي على النقيض من ذلك دعائم الشك في كل شيء، فليس ثمة يقين». لذلك ينبغي قبل كل شيء أن يقوم سؤال التفكيك على تأثيث الشك، ثم إعادة بناء اليقين على أنقاضه، وهي نظرية تقوم على «الهدم وإعادة البناء»، ففي الرأي التفكيكي تقوم القصيدة على المساءلة والأسئلة، مساءلة النص بغرض هدمه وإعادة بنائه، حيث يزعم التفكيكيون أن للنص عددا لا يحصى من المعاني والتفسيرات، وهم بهذا يصلون الى القولإن فيوض المعاني النصية لا تدرك وليس لها آخر، وهم متعطشون الى الهدم ربما اكثر من رغبتهم في اعادة البناء، ما داموا يركنون إلى فرضياتهم العجيبة ومنها «قراءة الإساءة»، حيث يمنحنا النص من خلالها وعبر سلطة اعادة القراءة تفسيرات لمعانيه الجديدة، كما ان ثورة التفكيكيين اكبر من أحلامهم وطموحاتهم، وهذا ما خلق لهم اعداء رأوا ان خطورة هذا المنهج واضحة تحت قائمة مسببات.
إن ما تقدم يوحي بأن التفكيكية قائمة على رفض المركز الثابت، والعنصر المسيطر، والثنائيات التي تؤطر للشكل، فتجعل له حدودا ثابتة، فالنص في نظر دريدا مجموع غير متجانس، وقد تحسس دريدا جوانب النقد التفكيكي، إذ إن هناك إمكانيات لأن يجد القارئ في النص المقروء «ما يساعده على استنطاقه، وجعله يتفكك بنفسه»، والتفكيكية في جزء منها هي رد فعل حذر إزاء البنيوية وتخفيف غلوائها وتوضيح رؤيتها الداخلية بالطريقة المثلى، فبعض من اقوى مقالات جاك دريدا مكرسة لمهمة تفكيك مفهوم «البناء» التي تخدم تجميد التلاعب في المعاني بالنص، والتفكيكية شأنها شأن البنيوية، رفضت أي مركز او مرجع للنص مهما كان اجتماعيا تاريخيا نفسيا وغير ذلك، وكما قال الفيلسوف جاك دريدا رائد التفكيكية: «التفكيكية حركة بنائية وضد بنائية في آن واحد»: أي تبني وتهدم الى ما لانهاية وهي سلسلة متواصلة من الدلالات»، وهكذا تنهض ذاكرة النص تحت قائمة أسئلة يمكن تحليلها وتأويلها وتفسيرها مرة بعد اخرى في كل قراءة جديدة للنص، ويمكن تفكيك النص الشعري بعدة عناصر منها» الثنائيات الضدية»: ولا بد من الحديث عن أهمية الثنائيات الضدية في تشكيل النص الأدبي، ونوضح ذلك على النحو الآتي: يبحث التفكيك قبل شيء من أجل إقامة مشروعه الهدمي التقويضي عن فراغات ونقاط ضعيفة، يدخل من خلالها الى أسس البناء، ويهدمها، من أجل إزالة الضعف والخلخلة التي في النصف، ولا شيء يساعد التفكيكيين على ذلك أكثر من «التناقض والتضاد في بنية النص»، لذلك فإن الثنائيات الضدية في النص تشكل «تعالقا/ تداخلا/ تجاذبا/ تنافرا» وهي بهذه الطريقة تعبر عن جدلية «الشيء وضده»، أي انها تصنع جدليتها الخاصة، والثنائية تمنح النص حياة جديدة، تعتمد على صور مغايرة لما تحمله نصوص أخرى. وهي تقدم لذة جديدة للنص، كما في رؤية بارت فتكون من بعض الانقطاعات «أو من بعض التصادمات» أو «المتضادات»، فينعقد الاتصال بين قوانين «النبيل والمبتذل» مثلا . فالأبيض قد يتحول إلى أسود «إذا تغير سلوك الإنسان من الخير إلى الشر»، وكذلك الأسود قد يتغير الى أبيض، فالثنائيات الضدية ليست إلا مجموعة من التصادمات، بين الشيء وضده أو نقيضه، ينتج عنها تغلب النقيض، أو شيء ثالث لا علاقة له بهما فـ «من تعالق أو جدل أو تصادم الليل بالنهار ينتج عنهما الفجر الذي ليس هو ليلا ولا نهارا» ومن التصادمات في الصورة كما ذكرنا في تصادم اللون الأسود بالأبيض، ولا شك أن التنافر في الثنائيات، يصنع نقطة فراغ يتخلخل بسببها النص، وذلك بتلاقح واصطدام هذه الثنائيات، حيث من صراع الشيء وضده، تظهر لنا صورة شعرية، ما كانت لتظهر لو هذا الصراع، وسيتفاجأ القارئ بضائقة نصية لم يعتدها، وعلى القارئ أن يملأ هذه الفراغات، فالمتضادات تصنع الايقاع الداخلي الذي هو الصوت الداخلي «اللغوي» للقصيدة، أي أنه غير ملموس، أي ايقاع الجملة وعلائق الاصوات والمعاني والصور، و»طاقة الكلام الايحائية والذيول التي تجرها الايحاءات وراءها من الاصداء المتلونة والمتعددة» وهي بذلك «تعتمد ايقاعا جديدا يستمد اغلب مقوماته من نظام الحركة وطرائق تفاعل العلاقة الداخلية التي تؤسس مجتمعة بنية النص ذاته، لكن هذا الايقاع الجديد لا ينفي القديم او يلغيه بشكل نهائي صارم»، ففي النص أصوات وانقطاعات وحركات أفعال ونبر وتكرارات واسباب أخرى تصنع الايقاع الداخلي في القصيدة وترتبط لذة النص في رؤية بارت، كما ذكرنا، بالانقطاعات، كأن تلتقي المتنافرات و «المنافرة تعتبر خرقا لقانون الكلام، إنها تتحقق على المستوى السياقي» فيجب على الشاعر أن يبتكر لغته الخاصة التي لا تشبهها لغة أخرى، فيحاول «أن يشتق لنفسه لغة خاصة» ويرتقي بـ «حوار مع الأشياء التي لها لغة لا يفهمها إلا من يعرف فك الشفرات والرموز، فيدخل هذا الإنسان في حوار مع العالم بكل مظاهره» وبذلك يتحقق الحوار بين الإنسان والكائنات المحيطة به عن طريق أسلوب خاص بالشفرات. وجماليات التضاد تظهر أيضا في أنه قائم بين الحسي والروحي، والشاعر يملك من الروحيات ما يجعله يحتضن الروحي ويملك الحسية فيحتضن الحسي، فتنشأ الطاقة التي تجمع الاضداد والثنائيات الضدية «تبعثر القارئ لأنها تعتبر منعطفات تثير الانتباه، ويحس عندها باللامعقول المبدئي، لأنه استطاع جمع ما لا يجتمع». ونشير إلى أن التضاد في الشعر القديم يختلف عن التضاد عند الشاعر المعاصر «ففي الوقت الذي ركز فيه الشاعر القديم على عنصر الجمع بين الأضداد حسيا في اطار البيت الواحد معتمدا على مضمون الدلالة اللغوية للألفاظ يركز الشاعر المعاصر على العناصر الشعورية والنفسية ليعبر عن الصراع والاضطرابات.. مستغلا بذلك مظاهر التناقض في الحياة والكون..» فكيف تتعالق الثنائيات الضدية مع النص الشعري، ليتولد عن ذلك صورة شعرية غنية في ابتكاراتها البلاغية، فإذا كانت الثنائيات الضدية تصنع حياة جديدة للنص الشعري، وهي تطوير لهذه الحياة الجديدة للنص، وهي الوجه البلاغي الجميل والمتطور له، حيث تتبلور هذه الصورة من خلال عناصرها البلاغية فتكون لها «قدرة التعبير عما يعجز التعبير عنه»، وهي لغة داخل لغة، ومعنى داخل معنى، وتأخذك الى عوالم تأويلية وتفسيرية جديدة، وهكذا يكون اشتغال الثنائيات الضدية مع التفكيك، لصناعة صورة شعرية تنبض بالحيوية والتأويل والاستنتاجات، فجمال عمل الضديات في الشعر واسع ومتشعب في الدرس التفكيكي، لقدرته على صنع الخلخلة والفراغات التي تساعد على تقويض النص وإعادة بنائه من جديد.