عندما يكون الشعر هو الآخر
ناظم ناصر القريشي
منذ أن ذكرت ملحمة كلكامش أنه «رأى كل شيء» أصبح الشعر هو الذات الأخرى وأسطورة اللغة التي لا تنتهي، وعليها بحضور الشاعر في الحياة أن تفعل الكثير، وستفعل ذلك دائماً، والشاعر حميد قاسم تلوح له الأيام كقصيدة، فتتحكم فيه غريزة الشعر فهي لديه كغريزة البقاء على قيد الحياة، لذا كانت قصائده كذلك، وهذا ما دونه في ديوانه «ألعب في الحديقة وأفكر» العنوان مخاتل وقابل للتأويل، بل هو ذاهب الى التأويل مباشرة، فهذه قصائد البقاء على قيد الحياة.
لوحة الغلاف التي صممها د. بلاسم محمد كمتواليات لانعكاسات مستحيلة، تتكون من جزئين الجزء العلوي مقطع جانبي لوجه الشاعر على خلفية سوداء هذا الوجه المدهوش بعينين براقة يطوي بتجاعيده زمن سومري قديم، نظره مستقيمه الى مرايا الكلام، وكأنه يقرأ أفكار المرايا ويلقي عليها الظنون، وفي الجزء الأسفل عنوان الديوان على خلفية بلون رصاصي هذا اللون المحايد والمحتار بحيرة حضوره بين الأبيض والأسود كأنه الغربة وفي هذه الحال يكون لوناً قاسياً وفي أحسن الأحوال كأنه الضياع، كلمة ألعب مقلوبة على كلمة في الحديقة وأفكر وهذا يدل على أن الشاعر لم يكن يلعب، بل كان يفكر فقط، توجد أيضاً نقطة كبيره باللون البرتقالي هو لون بين الأحمر والأصفر في الطيف المرئي وهو لون انفعالي يحمل في مضمونه العديد من المعاني والدلالات تحت باء كلمة العب المقلوبة وفي هذه الحالة ستكون فوق باء العب، كلمة العب بالون الأسود وكلمة في الحديقة وأفكر بالأبيض وعلى كلمة أفكر شدة بالون البرتقالي أيضا وهي احدى حركات تشكيل الخط العربي والدال على التشديد والقوه وهذا أيضا يشير الى التفكير، الغلاف أحتوى فكرة الديوان بشغف كامل
يبدأ الشاعر في مفتتح ديوانه بقصيدة “كل ما أراك” التي بدأت كأنها أغنية رومانسية ستقولها الأيام من جهات الأرض الأربعة، لكن يدخل السؤال كما يدخل الظل في الظل، لماذا يرقد غريبان على سرير واحد هذا السؤال يضفي مزاجاً درامياً وكئيباً قاسياً كالفزع وهو أبعد من الخوف وتأويله، فيضعنا كما وضعنا مونش في لوحته “الصرخة” بين لونين أحمر قاني وأزرق مسود وأصفر يعانق الذبول عبر خطوط ممغنطة كالإجابة عن أسئلة ميتافزيقية لا وجود لها، بأجوبته المريرة، فالسرير بداية ونهاية وما بينهما حياة وحلم، أو حلم في حياة أو حياة في حلم، وما يجاورهما من تأويل، حتى يستفيق الكلام: “أفكر أن أسألكِ فأنسى/ لأني أرى حياتي تغمض عينيها/ لتنام قريبًا من الباب الموارب/ كلما أراكِ/ إلى جانبي، وأنا أفتح عيني/ أسأل نفسي: لماذا يرقد غريبان على سرير واحد؟”.. في هذا المشهد الشعري الخصيب بفكرة إدورد هوبر رسام العزلة، يلتقط حميد قاسم المشاعر المربكة ويغزل العزلة في غربته”.
وفي قصيدة “كما لو” سنجد شبهاً كثيراً بين الشاعر وقصيدته كأننا ننظر في الى روحه عبر المرايا، من تعاقب المشاهد تتولد المفارقة بين المتخيل والواقع.. بين المأمول والكائن، فعل الوجود في الغيرية بين الأنا والآخر، كخطوات الظل التي تستطيل بالضوء خطوات حقيقية ذاهبة الى الزوال، تعبر الوهم الذي أصبحت راية ترفرف كلما طالبنا بالحقيقة، صورة بصرية محتملة، أو قيد الاحتمال للأماني، فهي الحيرة هذا التعبير ليس مجازياً لكنه شديد الإيحاء ومعناه الخفي بين مزدوجين: “كما لو.. يموت فيك شيء ما
فجأة/ كما لو يقول لك أبنك/ فجأة ... بعد عشرين عاماً/ “أنت لست أبي”../ كما لو أنك تقبل امرأة ما
لتجد نفسك وحيدًا، ذابلاً على الشرفة/ تحدق في الاخرين على الأرض/ هكذا أحدق بالحياة وهي تمر غاضباً وحزيناً”.
وفي قصيدة “هذا أيضا، سيمرّ” يبدأ الشاعر بالتحدث عن ورؤيته للأشياء، وهو يقوم برحلته اليومية، وسنجد أنفسنا معه، نتدرب على العيش في الحياة ونتعايش مع الوقت العصي والحاد جداً والذي يتجاهل نوبات الغضب والعواصف والألم الذي يتحكم في الدم في الأوردة والشرايين وسترافقه الحيرة الكئيبة والمروعة والأمل المفترض، فالقصيدة بحركيتها النصية، وتتابع صيرورتها بموازاة مع اشتراطات الوعي تجعل الجمل تتلاحق، وكأنها المأساة في حضورها وأتساع أفقها التراجيدي، ونقول “هذا أيضا، سيمرّ”، لكن غداً يوماً آخر، وما يحدث بعد ذلك كيف سنعيش في عالم الغد؟ وهي حكاية أخرى انبثقت من فكرة القصيدة: “هذا، سيمرّ أيضا/ من بين يديّ تحت البروق، وزوابع التراب/ فيما الطبيعة تعد لنا حماماً موحلا/ في هذا الربيع المتقلب، ذي الوجدان المرتبك/ حيث المارة، يعبرون ساحة الميدان/ متجهمين بملامح حجرية/ كأنهم يرتدون أقنعة متشابهة/ لفرط القنوط.. والخذلان”.
لكن في المقطع التالي من القصيدة يفاجئنا الشاعر. وهو يرسم لوحة انطباعية بامتياز وبحضور كلود مانيه، حيث سيختفي كل الشخوص تماماً من المشهد ولا يبقى سوى “أزهار النارنج البيض” وموسيقى بيضاء برائحة القداح على كمانات متعددة، ربما تضاهي موسيقى دبوسي، هل سمعت صوت الموسيقى وما يعادلها في حضور الكلمات التي أخذت مجدها وهي تومئ إلينا في حضورها اللفظي ووجودها التعبيري في الشعر النبيل حتى أصبحت ثمرة الكتابة..؟: “أفكر بأزهار النارنج البيض التي سقطت على ثيل الحديقة/ بانعكاس البرق على القداح/ رائحة المطر مفعمة بالتراب هذه المرّة!”.
ثم تتسع مديات القصيدة مع الموسيقى ففي المشهد التالي، ولا نقول الصورة الشعرية، فإذا قلنا هذه صور شعرية فقط فأننا لا ندرك المعنى وننتقص من الأسلوب، فهي صورة شعرية بلغة سينمائية، أي نحن أمام مشهد سينمائي متحرك عبر سيالة الوجود البشري، تؤدي فيه الكلمات أدواراً عدة: “لقد انتهت أسطورتك الكبرى أيتها المدينة/ مذ لم تعد هناك تنورات يرفعها الهواء بلطف/ لتعيدها أصابع الفتيات، وهي ترتعش، إلى الأسفل/ هواؤك العاصف لم يعد قادرا على إزاحة الجبب والبنطلونات/ هواؤك لم يعد قادرا أن يرينا القليل من النعومة والبياض/ لا في ساحة الميدان، ولا غيرها”.
ليس فرضاً أن تلد الأساطير الملاحم، وأن تأتي من بعيد، وتدون على رقيم الطين بتشكيل سومري، لغة هي أقرب إلى الأفكار منها الى الأبجدية فملاحمنا اليومية هي أساطيرنا في البقاء على قيد الحياة، لذا يجدل الشاعر الكلمات مع رائحة الذكريات، فيتكلم الحياة كما يقول الماء، ويقول الشجر، وهو على وشك استكمال فكرة الأسطورة/ الملحمة التي راودته، وعلى ما توحي به قصيدة “ألعب في الحديقة وأفكر”، لتؤكد شعرية القصيدة، بما تنطوي عليه من سمات مرئية، وكأن الشاعر يدون بأبجدية الطين السومرية على رقيم القصيدة، وكاسترجاعات لملاحم بعيدة، لكن الذي رأى كل شيء، أصبح من ينظر اليه يرى هاوية: “كلّ من ينظرُ إليّ/ إنه، يحدقُ في هاوية؟/ لماذا، يشعر، ماذا حدث لهذا المكان../ قبل أن يهبط الغروبُ المذهّبُ على قباب بغداد؟/ وانا ألعبُ في ممرِ الحديقةِ، وأفكرُ”.
الشاعر يطوي أفكاره كختم أسطواني، ويرتد الى أصوله الأولى، لذا كانت قصيدته الماء ونشيده موسيقي الريح في القصب ولغته أفكاراً كسومريته الأولى التي كانت في بدء البدء وكان بعدها التأويل، فالشكل شكل الماء، والموسيقى صوت الريح في القصب، فهل كان يلعب أم كان يفكر هذا الشاعر الذي أسهم في صعود بهاء الشعر للمنتهى الجمالي بتمرير ابتكاره الإبداعي في نص القصيدة المتعدد المعاني والتأويلات فهو تشاطئ الضفتين الواقع والملحمة بالتوازي مع الحياة، بعد أن فتح أبواب المجاز: “ولأني أعرف بغداد وقبابها جيداً/ أعرف ضعفها، وذهبها../ بريقها، وخفوتها../ أصابعها، وشوارعها التي تشبه الأصابع/ صفتها، وخواتمها../ مآتمها وأعراسها../ قطاعاتها، وحماماتها../ مجانينها/ وسياسييها../ تجارها، وشطارها../ أصابع قدميها، ومآذنها../ قباقيبها، وشورجتها، حلوياتها وبهاراتها،
صرائفها، وفتنها../ أزقتها، وجسورها، وشعراءها../ شرائعها، ومزالقها، ودروبها..”.
إن التجارب الشعرية الصادقة دائماً ما تكون منسقة مع الاتجاه الشعري الذي يتحرك في الواقع، وكذلك في الابتكار الإبداعي، والرؤية المتجددة للعالم والوجود، وهذا يؤكد أهمية الشعر في السياقات الدلالية واللغوية والفنية والفلسفية، والمتأمل في التجربة الشعرية للشاعر حميد قاسم، لابد من أن يقف بشكل عميق عند السمات الإبداعية التي تلتقط جوهر الحقيقة، ويعمل كشهادة مرئية على فضائل الحقيقة والولاء للحياة، هذه التجربة التي أقلقتها التحولات في مفاصل الحياة اليومية وفي تفاصيل الوجع الإنساني، فهو سعى إلى خلق تجربة شعرية منطلقها الوعي بالذات ومنتهاها الإخلاص وبوعي تام للحياة ،فكان الضوء في حقيقته الّلامعة.