مشاريع البناء والإسكان في العراق
الأستاذة الدكتورة جيهان بابان
بعد سنوات من الترقب أطلقت حكومة الخدمات التي أعلنها السيد رئيس مجلس الوزراء مشاريع ضخمة في قطاع البناء والإسكان المدعوم حكومياً، والذي يمثل حاجة ماسة للملايين من الشعب العراقي الذين يفتقدون السكن اللائق والأمن الاجتماعي، وخطوة مهمة على طريق تحقيق أحد أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر للأمم المتحدة المصادق عليها من الحكومة العراقية.
حيث تضع في قلب برامجها التنمية والاستدامة الاقتصادية والاجتماعية كأساس لبناء السياقات واعداد الخطط التنفيذيّة، خاصة على مستوى المدن والمجتمعات المحليّة.
وقد حظي موضوع البناء والإسكان باهتمام الأمم المتحدة بسبب التوسّع المتسارع للمناطق الحضريّة، خاصة في البلدان النامية بسبب النزوح والهجرة، ولأسباب متعددة بعضها يعود الى التغير المناخي، والتي هي خارج التخطيط والسيطرة الحكوميّة.
وترافق هذا التوسّع العشوائي مخاطر تهدد الصحة العامة وأمن المواطن وعدم توفر مصادر الطاقة والموارد المائية الكافية خاصة من المياه العذبة الصالحة للشرب، ومن هنا جاء التأكيد على عنصر الاستدامة في التعامل معها على وفق منظور عصري للبناء.
عامل مهم آخر هو التطور المتسارع للتقنيات الرقميّة، ومنها جمع ومعالجة كميات ضخمة من المعلومات، وعلى صعيد الاتصالات وتطبيقاتها في المناطق الحضريّة التي تخلق بحد ذاتها تحديات، على سبيل التعامل معها بشكل براغماتي وعلى أساس التخطيط والادامة والإدارة، والتي تتطلب مهارات غير تقليديّة مبتكرة لضمان كفاءة الاستخدام وتحقيق النتائج المتوخاة من هذه التقنيات في مشاريع السكن والبناء.
وهنا لا بدّ من التأكيد بان مفهوم الاستدامة للمدن الذكيّة تعني النظرة الشاملة والمرنة المتدرجة في التطبيق والقادرة على الصمود المعتمدة على قرارات مبتكرة تنسجم مع الواقع المجتمعي العراقي.
هذه المدن المستدامة الذكية تضمن للمجتمع المحلي هواء نقياً، ومياهاً نظيفة للشرب، والاستخدام المنزلي، وآليات نقل حديثة، وخدمات لإدارة ومعالجة النفايات والمياه العادمة، وغيرها من الخدمات الضروريّة لضمان الاستدامة.
ومن هنا جاء الترحيب الوطني الواسع بالبدء الفعلي ببناء مدن سكنية عصريّة وذكيّة مستدامة في أطراف بغداد والمحافظات الأخرى "مدن علي الوردي والجواهري في بغداد، والغزاليّة في الموصل، ومشاريع أخرى مقبلة" تمثل قفزة نوعية في حالة إكمالها، وبالمواصفات القياسيّة العالميّة من نواحي الجودة والنوعية وإدارة المشروع.
وحوكمته وتنفيذه بروح الشراكة والتوافق والتعاون بين القطاعات الخدمية الحكومية وغير الحكومية ورجال الأعمال والمال وممثلين عن المجتمع المحلي على وفق سياقات محددة، وبتوقيتات زمنيّة لإنجازها بنظرة شموليّة متناسقة ستشكل خطوة متقدمة ونجاحاً مميزاً في التعامل مع مشاريع عملاقة للإسكان، والتي ستصبح إنجازاً تاريخياً قد يكون الأهم في برامج حكومة الخدمات التي أكدت عليها رئاستي الوزراء والجمهورية، وتقدم حلا لأزمة مستعصية عانى منها المواطن العراقي لعقود عدة.
ولا يمكن أن يتحقق جانب الاستدامة من دون مشاركة فعّالة من وزارة البيئة خاصة في الجانب الرقابي لضمان تحقيق متطلبات الحفاظ على البيئة عند إنشاء وحدات سكنيّة، ومرافق خدميّة وثقافيّة وحضاريّة وتعليميّة وصحيّة، وبنى تحتيّة ومساحات خضراء، وضمان توفر مصادر للطاقة الكهربائيّة والحراريّة بشكل مبدع ومبتكر، مثلا في مشروع الوردي سيشمل بناء 120 ألف وحدة سكنية، وبأسعار مدعومة سيقطنها ما يزيد على 300 ألف مواطن من الشرائح الفقيرة والمتوسطة، ويشكلون مجتمعها المحلي المستقبلي.
ومن أولى مهمات وزارة البيئة في هذه المشاريع السكنية العملاقة هو ضمان توافقها مع الاستراتيجيات الوطنيّة للتخفيف والتكيّف مع تبعات التغير المناخي التي قدمها الوفد العراقي المفاوض كأساس في مؤتمر الأطراف كوب 28، بما فيها تخفيض الانبعاثات الدفيئة بحلول عام 2030، خاصة عند رسم السياقات الإطاريّة للانتقال من التصاميم الى الخطط القطاعيّة التفصيليّة للإنشاء، وبالمواصفات، والنوعية، والجودة للبناء المستدام الذي يقلل من هدر واستهلاك الطاقة.
ومن الجوانب الاجتماعية المهمة هو ضمان مشاركة فاعلة للمجتمع المحلي في الإدارة والإشراف الأمر الذي يرتبط بدور الحكومة المحليّة والشركات المنفذة لضمان توافقها مع احتياجاته، ومنها الفئات التي تحتاج الى رعاية خاصة بسبب الإعاقة أو المرض المزمن، أو مستلزمات التسوق للطعام والملبس والتعليم والصحة والعمل وحاجات النقل والتنقل على وفق المعايير الحديثة لبناء المدن العصرية في القرن الحادي والعشرين، التي تعطي الأولوية للاستدامة وترشيد استهلاك الطاقة وتقليل الهدر والاستفادة القصوى المتوازنة من التقدم التكنولوجي والرقمي وتضمن أمن وسلامة جميع المواطنين عبر سياقات لمكافحة الإجرام المحلي، وتحد من انتشار المخدرات والصراعات المجتمعيّة مدعومة بتشريعات تحمي حقهم القانوني في الشراء والتملّك، وتحدّ من المضاربات ومن تأثير مافيات العقارات.
ومن الجوانب المهمة أيضا، هو توفر الحماية والأمن البيئي عبر الإدارة الفاعلة لمكونات النظم البيئيّة من ماء وهواء وتربة ونظم ايكولوجية، وموائل للحيوانات.
فالتخطيط الهندسي العصري للمدن اليوم يختلف عن تلك التي سادت في القرن الماضي، حيث كانت المجمعات السكنية مجرد كتل كونكريتية تفتقر عوامل الصمود والاستدامة وتسهم في الإضرار بالبيئية، إذ أصبح لمفهوم الاستدامة جوانب اقتصادية واجتماعية وبيئية مع رؤية للحفاظ على مستقبل الأجيال المقبلة، أحدها مثلاً، هو ضمان النمو الاقتصادي وتقليل البطالة وكفاءة في تقديم الخدمات، ومنها وسائط النقل العامة، وتعزز التماسك الاجتماعي، وبالشراكة بين الإدارة المحلية والقطاع الخاص والمجتمع المحلي.
وتمنح التكنولوجيات الحديثة مشاريع البناء أفقاً واعداً لتعزيز الاستدامة، ولكن من معوقاتها التطور المتسارع لتقنياتها والكلف العالية، وأيضا الحاجة إلى ثقافة مجتمعية محلية قادرة على التعامل معها مع ضمان توفر متطلبات الإدامة والصيانة، ومنها الرقميّة لها بما تحتاجه من مهارات وخبرات خاصة.
ومن فوائد هذه التقنيات هي الاستفادة المباشرة منها في جمع وتحليل البيانات التي يمكن اعتمادها في التصميم والتخطيط وتحديد المواصفات وأيضا في تطوير بنية تحتية للاتصالات، ومنها الأنترنت.
فعلى سبيل المثال يمكن الاستفادة من نظم المعلومات الجغرافية الالكترونية لرسم المساحات المحددة للمشروع العمراني، وما يحيط بها من أنهر ومخازن للمياه الجوفية ومساحات خضراء وتجمعات سكانية ومستوطنات احيائية من نباتات وحيوانات، أو مصادر للتلوث من مكبات، أو مصانع محلية والتي تشكل جزءا مهما في اعداد التقييم البيئي للموقع العمراني.
كذلك الاستفادة من التقنيات في وضع أجهزة مراقبة واستشعار للملوثات، ومنها العواصف الرملية والغبارية، أو في إقامة منشآت عصريّة لتنقية وتصفية مياه الشرب، والمياه العادمة، ومركز تدوير ومعالجة المخلّفات الصلبة، وتحويلها الى طاقة، أو استخدام مصادر للطاقات متجددة لدعم الشبكة الكهربائيّة الوطنيّة، والتي تقل كلفتها باستمرار، وممكنة التحقيق مثل الطاقة الشمسيّة أو الرياح.
وعلى صعيد الجانب الأمني استخدام شبكة من كامرات المراقبة لدعم مركز الشرطة المجتمعية المحلي، ومكافحة الإجرام وانتشار المخدرات.
ويمكن أن يتم التعاون مع كلية البيئة في أحد الجامعات القريبة لإقامة مشروع بحثي، والخزن الرقمي للمعطيات، والبيانات المتعلقة بالمدينة السكنية وتحليلها والاستفادة من مخرجاتها لتعزيز الاستدامة.
ولضمان حماية البيئة والاستدامة يصبح التقييم البيئي والاجتماعي مرتبطا بمراحل المشروع المتعددة، مثلا السبل الممكنة لتحقيق خفض الانبعاثات الكاربونيّة في ضمن السياقات التنفيذيّة من إعداد الخرائط والتصاميم، وتحديد المواصفات لمواد الإنشاء والبناء، أو على تجاوز العديد من العقبات والمعوقات التي ستبرز عند التنفيذ، والتي إن لم تتم معالجتها ستقوض أسس نجاح المشروع واستدامته وتاريخيته، باعتباره أضخم مبادرة سكنيَّة في تاريخ العراق.
ومن الجوانب المهمة التي سيتناولها التقييم البيئي، مثلا التعامل مع تراكم النفايات الانشائيّة، ومع خطوط نقل المواد التي تستخدم في البناء، وهو أمر معروف في مشاريع الإسكان والإعمار، أو في تحديد سعة المساحات الخضراء، أو المسطح المائي كبحيرة ومتنزه التي يتضمنها التخطيط الأساسي للمدينة.
ومن الأسئلة المهمة التي ستواجه الفريق الهندسي والبيئي أيضا مصدر الطاقة التي تحتاجها عملية البناء، ومشروع تنقية المياه العذبة للشرب والاستخدام المنزلي، ومعالجة مياه الصرف الصحي والعادمة، وجعلها صالحة لسقي وري المساحات الخضراء بالطرق الحديثة.
وهنا ينبغي التأكيد أن التحديات البيئيّة في مشاريع السكن، ومنها الفرص والمعوقات المتوقعة، قابلة للحل على وفق إدارة سليمة ومتوازنة للمخاطر، بما يدعم الاستدامة والتي تعاملت معها مدن سكنيّة عملاقة في العالم.
عراقيّاً، تمثل هذه المشاريع الضخمة فرصة كبيرة للتعامل المنهجي والعلمي مع متطلبات الاستدامة البيئيّة، والتي تعد إشكالية رغم التخصيصات المالية التي توفرت بعض المحافظات وبالاتجاهات الآتية:
-الأول إقامة مشروع نقل ومعالجة وتحويل النفايات الصلبة الى طاقة متجددة كهربائيّة وحراريّة نظيفة، حيث وفر التطور العلمي والتكنولوجي امكانات واقعية لتحقيق ذلك، وبكلفة استثمارية مقبولة، والقادرة على توفير طاقة كهربائية وحرارية تغذي معظم احتياجات المنطقة السكنية مع استخدام مخلفاتها في رصف الشوارع، واستخدام غاز الميثان للطبخ والتدفئة، خاصة وأن النفايات في العراق هي سبب مهم لتلوث الهواء والمياه المسطحة والجوفية، ولمكونات البيئة المحليّة وانتشار الأمراض المعدية والسارية.
وفي سياق المشاريع السكنيّة تعني النفايات نتاج النشاط اليومي للبشر ولجميع مرافق الحياة العملية للمدينة السكنية، وقد تكون عضوية، أو صلبة، وتتطلب منظومة حديثة لجمع النفايات بأنواعها المختلفة الناتجة عن الأنشطة البشريّة أو التجاريّة أو الصناعيّة، ونقلها الى محطات للفرز، ومن ثم تحويلها الى طاقة كهربائية أو حرارية، وبأتباع سياقات الأقتصاد الدائري الأخضر المعتمد على تقليل النفايات، وإعادة الاستعمال والتدوير.
وتقدر احصائيات الجهاز المركزي العراقي للإحصاء لعام 2019 معدل كمية النفايات المنزلية المتولدة عن كل فرد 1.4 كغم يومياً.
- والثاني هو إقامة وحدات لمعالجة وتدوير مياه الصرف الصحي، والتي ستوفر فرصة لتطبيق الاقتصاد الدائري الأخضر في تحويلها الى مياه لسقي المناطق الخضراء والمسطحات المائية.
- وثالثاً اقامة وحدة لتنقية وتصفية المياه من الملوثات المختلفة، ومنها البيولوجية، والملحية، وجعلها عذبة صالحة للشرب.
- ورابعا دعم وتحفيز إقامة مصادر محلية للطاقة المتجددة، مثل أنظمة الطاقة الشمسية، وتسهم استراتيجيا في دعم الانتقال التدريجي لمصادر نظيفة للطاقة تسهم في أن يحقق العراق استراتيجيته المستقبلية لتحقيق التصفير الكاربوني.
ولأهمية هذه المشاريع التي تقودها وزارة البناء والإعمار، والإسكان وبالشراكة مع منظمات، وشركات دولية والقطاع الخاص الوطني من رجال المال والأعمال تدعمها الخبرات والكفاءات العراقية نقترح إقامة مؤتمراً وطنياً سنوياً ذا منحى تقييمي يناقش سير المشاريع والتحديات والمعوقات والحلول الناجحة والمبتكرة، ومن منظور علمي وتقييمي ومهني، والتي ستكون قضايا البيئة والاستدامة أحد المحاور المهمة فيها، وأيضا متطلبات مرحلة ما بعد الانشاء في دعم المجتمعات المحلية في المدن السكنيَّة، والتي تشمل الجوانب التوعويّة حول طرق وسبل العيش السليمة في مدن عصريّة ذكيّة في العراق.
التنمية المستدامة السبعة عشر للأمم المتحدة المصادق عليها من الحكومة العراقيّة.