سيميائيات الاحتجاج ونظريات المؤامرة

ثقافة 2024/03/20
...

 عبد الغفار العطوي

الفضائحية والعقل الفضائحي
يمكننا تعريف الفضائحية بأنها فعل  فصامي يتجاوز فيه المجتمع في أجلى صوره، بنقل الشيء  المراد إيقاعه في الفضيحة من السر نحو العلن  بقصد عدائي  مبطن، في ظاهره الاحتجاج في أحرج مجالاته التي يلوح بها بوصفها فضيحة، وفي خفائه باستخدام ظاهرة سيميائية، عبر وسيط  مشكل من علامات تنعت بنظريات المؤامرة، ويتخذ العقل الفضائحي من ضمور العداء السيميائي، والإيمان بنظريات المؤامرة سبيلاً في تحقيق مآربه، التي تصطبغ بثقافة الاحتجاج ومجالاته الدلالية في مبررات احتجاجه في أربع سمات أساسية، هي التي تميز أبنيته السيميائية (السيميائيات الثقافية، سيميائيات الاحتجاج،  عبد الله بريمي)، والعقل الفضائحي لا يمكن فصله عن ظاهرة الاحتجاج، لاسيما في استخدامه كل ما له صلة بثقافة الاحتجاجات من وسائل وطرائق متنوعة ترسمها بلاغته الإقناعية المتكررة التي يتقنها جيداً،  وفي أبعاد لغته الكاريكاتورية، اللفظية المنمقة،  والبصرية المدعمة بحركة الجسد الإيحائية، وبتأثير خطاباته القوية، إضافة إلى أن سمات العقل الفضائحي تنهل من تاريخ الجنون  والاضطرابات الانفعالية في عدم التوازن النفسي (العلاج المعرفي والاضطرابات الانفعالية، ارون بيك)، واعتماده على المزج بين استخدام الاحتجاج ونظرية المؤامرة معاً في شطحات العقل (شطحات العقل  بين الإبداع والجنون، رافاييل غابار)، فالفضائحي، بهذا العقل المضطرب يختلف في تأويلاته عما تقصد إليه السيميائيات الثقافية من التكهن بالوسيط المشكل من العلامات، فالفضائحي هو عبارة عن تركيبة عجيبة وغامضة من أنواع المهارات الثقافية والهلوسات العصابية (علم النفس الشرعي، مقدمة قصيرة جدا، ديفيد كانتر  ص 46 كيف تصنع مجرما)، التي يختزنها في عقله الخفي الفضائحي (الباطني)، وتكون شخصيته وفق ما تعمله هي، إذ تقوم على صنع عالم وهمي من الظواهر النفسية المتشنجة، اللافتة للنظر، خاصة في تعامله مع الآخرين ( تاريخ الجنون من العصور القديمة  وحتى يومنا هذا، كلود كيتيل). لهذا سنحاول دراسة الجوانب  الثقافية المحفزة في عمله الفضائحي، عبر دراسة أجزاء من تلك التركيبة، بقدر تعلقها باختصاصنا الثقافي، ولعل ظهور العقل الفضائحي عبر بروز عالم متشابك متعدد الأبعاد (عالم متعدد الأبعاد برنار لايير )، الذي ساهمت فيه العلوم الاجتماعية  بسبب عدم انغلاقها على قوانينها، بل الانفتاح على العلوم الإنسانية الأخرى، وبقدر ما، في تنمية مفهوم الفضيحة من أجل إيجاد الطرق في مكافحة العقل الفضائحي الذي ارتبط بالسوشيال ميديا في الآونة الأخيرة، التي استطاعت فلسفة التخييل رفدها باعتبارها موضوعاً للتفكير (التخييل موضوعاً للتفكير، عثماني الميلود)، فالمدى التخييلي الذي هو إشكالي بالأساس، يعني بالنسبة للفضائحي مقاربة سيميائية من جانبه، في طيها على إيجاد علاقة بين التخييل والتأويل ( أومبرتو إيكو)، من هنا بدت خطورة لعبة دور الحمل الوديع.
سيميائيات الاحتجاج و نظريات المؤامرة :
 ظاهرة الاحتجاج برزت في عصرنا، لتعم معظم المجتمعات الغربية والمجتمعات العربية، وسواها  في العالم، ويمكننا دراستها بواسطة السيميائيات الثقافية، وفي دراستنا لظاهرة الاحتجاج باعتبارها عملية تواصلية قد صبغت مظاهر العالم الثقافية والإعلامية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي  المختلفة، وظاهرة الاحتجاج أو الحراك المجتمعي هي ظاهرة اجتماعية سياسية، ولعل التركيز في هذه الظاهرة من خلال نظرياتها المختلفة، من أبعاد لغتها اللفظية والبصرية، وبلاغتها الإقناعية وطرق تأثيرها، قد خدمت العقل الفضائحي الذي يستغل الظروف الملائمة في صنع الفضيحة، أما المقاربة بينها وبين السيميائية، فيبدو أن ثقافة الاحتجاج بعد  الثورة العالمية للاتصالات ( الكون الرقمي  بيتر بي سيل)، قد واكبت ظهور شبكة الإنترنت والويب، وتطور وسائل التواصل الاجتماعي   والإعلام الرقمي لدرجة مذهلة لم يتوقعها أحد (المكانية الرقمية، أهمية الموقع في عالم متشابك، اريك جوردون  و ادريانا دي سوزا اي سيلفا)، فتطلب ذلك أن يبرز من هذا التداخل بين ثقافة الاحتجاجات واتساع رقعتها وتمايز معناها بالنسبة  لعمليات التواصلية، وبين ديناميات شبكات التواصل الإلكترونية، قيام تأويلات متصارعة ومتداخلة مع تأويلات مضادة، مما ضاعف الحراك المجتمعي، وصار من المحتم أن تتبنى هذه الاحتجاجات مقاربات من زوايا نظر مختلفة، المؤرخون فضلوا اختيار السيميائية، انطلاقاً من البحث عن الوثائق وإيجادها وفرزها وتمحيصها، ووجدوا ضالتهم في السيميائية الثقافية، باعتبار الاحتجاجات ظاهرة دلالية تواصلية، أي أنها  ظاهرة متموضعة  في قلب الثقافة، تنطلق من داخل  شبكة نسجت من خيوط سيميائية تأويلية، وبعض وحداتها الثقافية مكونات أساسية لكثير من مساراتها الدلالية، كما أن المقاربة السيميائية سمحت للمقاربات الأخرى في مشاركتها بدعم ثقافة الاحتجاجات، لكنها وحدها كانت قد اقترحت مجموعة من المفاهيم  والطرائق، كي يمكنها التحقق من الممارسات والنصوص والأشياء والتفاعلات الاجتماعية، وأساليب الحياة المشتركة، في الوجود المعيشي الجماعي والمجتمعي، لما لها من القدرة على خلق المعنى في كل هذه المباني، والعقل الفضائحي يدرك أهمية ما أنتجته تلك السيميائيات، فاستغل كونها تصدر من المقاربة نفسها، التي يمكننا تأويل تأويلاتها ( انظر كتاب اومبرتو ايكو، التأويل والتأويل المضاعف)، أقصد نظريات المؤامرة التي هي عبارة عن ظواهر سيميائية بطبيعتها، لأنها تدرك دائما عبر وسيط يتشكل من علامات ( عبد الله بريمي)، بيد أن العقل الفضائحي يعلم  نقطة الضعف في المقاربة السيميائية، بينما يتعلق بالتفريق بين ثقافة الاحتجاج، وظاهرة الاحتجاج ، من خلال وعي الفضائحي الفصل بين الاحتجاجات بمنحاها العشوائي، وكونها ظاهرة سيميائية تعمل على خلق التحولات الاجتماعية لتصل نحو انهيار الدولة. العقل الفضائحي يعلم أن المقاربة السيميائية ليس بمقدورها أن تحسم وجود مؤامرة أم لا، كذلك هي لا تستطيع تقييم قدر نظرية المؤامرة في وصفها ظاهرة ثقافية في النفع  أو الإضرار بتلك الاحتجاجات، باعتبارها لا تبت في مدى كفايتها وصلاحيتها في ذلك المجال، لهذا فالعقل الفضائحي اليوم يمارس أرقى المناصب الثقافية، ويقوم بصنع مستقبل ما بعد بشري بديل، في عالم رقمي مخيف، عقل يشبه عقل ( ياكو) الذي يعتبر إحدى الشخصيات الخيالية التي ابتكرها الكاتب  الإنجليزي وليم شكسبير في مسرحية عطيل (1661 - 1664) .