جمال العتابي
"ذهبتُ صباح الجمعة مع (المستر كوك) لافتتاح سوق عكاظ... السوق الشهيرة التي كانت تعقد (أيام الجاهلية) قبل الإسلام، الجيل الجديد في بغداد يعتزم إحياء هذه السوق، وجعلها مناسبة سنوية يقيمون فيها معرضاً للفنون والصناعات، لقد افتتح الملك هذه المناسبة الاجتماعية وحين انتهينا من التجوال في المعرض، قادني (نوري باشا) بين الجمهور".
الاشارة أعلاه وردت في مذكرات "المس بيل" المدونة يوم الجمعة الموافق 26 شباط من عام 1922، أي بعد تأسيس "الحكم الوطني" وتنصيب الملك فيصل الأول ملكاً، على العراق بعام واحد، وفي إشارة وردت في جريدة العراق الصادرة في عام 1929، يتأكد وجود "عرض فني بسيط" في اطار المجتمع والمدرسة، وإشارة المس بيل ربما غير مقصودة عن وجود ما يمكن أن يوصف بالرسم العراقي في ذلك العهد.
وهي تضيف بالقول: لم يكن المعرض حدثاً مهماً، فقد كانت هناك خيمة ملأى بالصور التي رسمها فنانون محليون، وكانت المواضيع المنتخبة مجازية في الغالب تمثل روحية العراق! وهي تنهض من بين الرماد، من هذا أستطيع القول: اننا نحتاج إلى وقت طويل لخلق فنانين مثل "ميخائيل أنجلو".
وكأن العراق حسب هذا القول أصبح جزءاً مملوكاً للامبراطورية البريطانية.
برغم ذلك، واستناداً إلى المعطيات المتواضعة التي أضاءت لنا جانباً من تلك الفترة الزمنية، فانها ساهمت في كشف حقيقة تربوية تؤكد بأن درس "الرسم" مادة في المنهج الدراسي، وأنه كذلك موجود في أوساط رسامين خرجوا للتو من خيمة المعرض الفني في سوق عكاظ، وانه سينتقل يوماً من ساحة المدرسة ليحلّ بشكل "معرض فني" في ساحة المجتمع العراقي الأشمل.
مثل هذه الانتقالة النوعية تنطوي على دلالات مهمة تتعلق أساساً بالحياة الثقافية، لأنها تمثل تطوراً في العقلية التعليمية التي كانت تحاول أيامذاك الامساك بأهداب الحداثة متأثرة بما كان يجري في مصر من تقدم ثقافي وفني مشهود منذ تأسيس مدرسة الفنون الجميلة في العشرينيات.
إنه تواقت زمني متقارب قد يجمع بين أطراف حالات وأحداث وظواهر مختلفة، تركت أثراً ايجابياً في الحياة العراقية الساكنة، بدأت تظهر على سطح الحياة الثقافية كذلك:
- الفنان أكرم شكري يفتتح قائمة البعثات الفنية إلى خارج العراق كأول مبعوث لدراسة فن الرسم في لندن
عام 1930.
- رسامون عراقيون يشاركون في المعرض "الصناعي – الزراعي" الذي أقيم عام 1931، شارك فيه كل من الرسامين: عبد القادر رسام، الحاج محمد سليم علي، فتحي صفوة، شوكت الخفاف، عبد الكريم محمود، رشاد وجواد وسعاد سليم، يذكر أن رشاد نال الجائزة الأولى في الرسم، وكانت الجائزة الثانية من حصة جواد سليم في النحت.
- معارض الرسم التي كانت تقام في المدرسة المأمونية، ودار المعلمين الابتدائية في الأعظمية تعد مناسبات نموذجية مهمة للمهارات والابداع الفني، كما تؤكد أسماء مدرسين فنانين موزعين على مدارس ومعاهد العاصمة، نذكر منهم: فتحي صفوة، استاذ النحت وصب التماثيل، وكان رساماً بارعاً في الألوان المائية، وشوكت الخفاف، درّس عدداً من الطلبة أصبح بعض منهم رواداً للفن العراقي، مثلُ حافظ الدروبي، وناصر عوني وآخرين .
- الفنان عطا صبري يضع الخطوط والتصاميم الفنية للعناوين الثابتة في مجلة "الفتوة" عام 1934، و"الحكمة" عام 1937، و"التفيض" عام 1939.
- رسوم وعناوين أخرى تظهر في المجلات للفنان فائق حسن.
العصر إذاً بدأ ينشر أزاهيره الثقافية على امتداد الحقل العراقي الصغير منذ ثلاثينات القرن الماضي، لكن البذور في الغالب كانت غريبة قادمة من الغرب، وهذا قدر كل البدايات التي تشكلت في أغلب البلدان العربية أنذاك.
كانت ملامح اليقظة والتنوير قد أخذت مداها الأوسع في الأفق الوطني، وشكلت ردود أفعال متباينة إزاء تدفق الثقافة الغربية في المحيطين الفكري والأدبي على حدٍ سواء. وهكذا أحدث هذا الوضع الجديد مستويين فكريين متضادين، استقبل الأول منهما موجات الثقافة الجديدة بترحاب فتح لهل مديات الاستيعاب حتى آخرها، ومنحها حرية الانتشار بسرعة توازي سرعة تدفقها، أما الآخر فقد كان يؤكد على أرجحيات النظر العقلي المتوازن السليم في التلّقي والانتقاء، أملاً في الحفاظ على الخصوصية الوطنية في الفن.
الاستشفاف المبكر لمآتي المستقبل، والتوقع الحدسي لصورة الغد، منظورة من زاوية الانتماء للأرض وللتاريخ، يكتشفها بوعي أكثر نضوجاً، وأشد وضوحاً، الفنان جواد سليم، ففي عام 1941 يكتشف "الواسطي"بطريق الصدفة عندما يطلع على صورة لنمنماته لدى صديقه عطا صبري. ولما كان إحساسه بالانتماء إلى تقاليد الفن الرافديني القديم والعربي الوسيط قد بدأ ينمو في ظلال المتحف العراقي أيامذاك، فقد كان لهذا الاكتشاف، فعل السحر في نفسه، وقد بقي هذا التأثير فعالاً في ذاته حتى آخر حياته.
قد يبدو لمتابع تلك الايام بان الحياة قد تدانت أطرافها فلم يعد البعيد بعيداً كما كان حينما أصبح الرعيل الأول من شباب الفنانين يعقدون أواصر الصداقة معهم، وتتطور العلاقة الجديدة فتغدو مشاركة في النقاش والرسم، ثم يتأثرون بأساليبهم ويعرفون منهم الاسماء والمصطلحات والمدارس الفنية التي كانوا يعرفون البعض منها بطريقة القراءة والسماع حسب.
في عام 1943 يقيم الفنانون البولونيون الذين وفدوا إلى العراق معرضهم الأول في بغداد، يبصرون زملائهم العراقيين بإقبال العصر، وتدفق ينابيع الفن الإنساني الذي يحمل الحقائق الجديدة للناس. والباحث في هذه الفترة الزمنية لايستطيع أن يتجاوز مهمة التصدي لما أفرزته ظروف الحرب العالمية الثانية من ظواهر، وما تركته من آثارعميقة في الحياة الفكرية والفنية في العراق، فقد استدعى هذا النموذج المفاجئ لقدرات الفن التشكيلي، فيها تأسست الجماعات الفنية، بدءاً بجمعية أصدقاء الفن عام 1940. وهكذا ظلت حركة الفن تمتد وتتجدد لتؤكد وجودها الحي في تواصلها الزمني مع الحاضر.