ضعفي هو سلاحي وحقي
ترجمة: كامل عويد العامري
صدر هذا الكتاب في: 13-03-2024 لمؤلفه باسكال بروكنر عضو اكاديمية غونكور،عن دار غراسيه Grasset الفرنسية، وتضمن ثلاثة فصول، هنا ترجمة كاملة للمدخل والمقدمة.
"أنا لا أسألك عن عرقك أو جنسيتك أو دينك،
أريد فقط أن أعرف ما هي معاناتك".. لويس باستور.
"الإنسان تلميذ، والألم معلمه، ولا أحد يعرف نفسه
إلا بعد أن يعاني". الفريد دي موسيه.
البانتيون المقلوب
في 8 ديسمبر 2015، أعلن الإيليزيه أن الرئيس فرانسوا هولاند كان يفكر في منح وسام الشرف الوطني، بصفة بعد الممات، لضحايا الهجمات في 13 نوفمبر في مسرح باتاكلان والشوارع المحيطة بها( إذ وقع إطلاق نار جماعي وتفجيرات أدت إلى مقتل 87 شخصًا أثناء حفلة موسيقية لفرقة إيجلز أوف ديث ميتا). وأعرب المستشار الكبير عن عدم موافقته. ومنذ اقراره في (19 مايو 1802 على يد نابليون بونابرت)، حيث كُرم العسكريون والمدنيون الذين قدموا خدمات جليلة للأمة. كان الضحايا الـ 130 الأبرياء الذين قتلوا على يد جماعة الجهاديين الوحشية، والذين وجدوا أنفسهم لسوء الحظ في المكان والزمان الخطأ يستحقون تكريم الأمة بألف طريقة أخرى
في عام 1999، سنّت إسبانيا وسامًا خاصًا للأشخاص الذين قتلوا في الهجمات الإرهابية. وأقامت الولايات المتحدة نصبًا تذكاريًا لضحايا الحادي عشر من سبتمبر. ومع ذلك، فإن وسام الشرف ليس مكافأة للمأساة ولا للحزن: إنه من المفترض أن يكون تكريمًا للجدارة. إن الإعلان عن تكريم البلاد للضحايا أمر، ومنحهم جائزة مخصصة للأعمال البطولية أمر آخر. كما لو أننا أردنا تطهير المأساة من خلال تزيين الرجال والنساء الذين سقطوا، بأوسمة جمهورية. لكي تحصل على وسام، يجب أن تكون قد قاتلت بشجاعة، وليس فقط أن تكون قد قُتلت عشوائيًا.
وأخيرًا، تخلت الإيليزيه عن هذا المشروع وسنّت في 12 يوليو 2016 وسام التقدير الوطني لتكريم ضحايا الإرهاب، وهو الوسام الخامس الأكثر أهمية في الترتيب البروتوكولي، قبل وسام المقاومة وصليب الحرب. ومع ذلك، استقبلت بعض فئات الرأي العام، فضلا عن الجيش. هذه الخطوة ببرود. فهل من كان يتعرض للظلم أو القتل على يد عناصر متعصبة له الأسبقية على تكريم المقاتلين المسلحين؟ كانت الأمة تشمل جميع أبنائها ولكن بعضهم أكثر من الآخرين. يُعتبر الحائزون على وسام الإرهاب "ضحايا حرب مدنيين"منذ عام 1990 ويحق لأطفالهم أن يكونوا تحت وصاية الأمة. هناك العديد من الدلالات المهمة للارتباك المعاصر للغاية الذي أثار جدلاً بعد الحرب العالمية الثانية بين مقاتلي المقاومة والمبعدين: هل يستحق التعذيب المفروض مزيدًا من الاحترام أكثر من الإنجاز المحقق، وهل الشخص البائس أكثر بطولة من الشجاع؟
ثوقيديدس ويسوع المسيح.*
في كتاب الحرب البيلوبونيسية، وهو سرد للصراع بين أثينا وإسبرطة والمدن اليونانية، يذكر المؤرخ الأثيني ثوقيديدس (460-395 قبل الميلاد) القانون التالي: "لا تلعب العدالة دورًا في تفكير الرجال إلا إذا كانت القوى متساوية في الجانبين؛ وإلا، في حالة عدم المساواة، يمارس الأقوياء سلطتهم ويجب على الضعفاء أن يستسلموا لهم." هذا هو القانون الأزلي: الحكم للقوي، وينحني الضعفاء. هذا هو الوحي المسيحي، الذي أعلنته اليهودية، الذي يقلب هذا النمط الحضاري الذي أثار استياء الوثنيين، الذين روعهم تمجيد إله يسمح لنفسه بأن يُصلب كالعبد من أجل خلاص البشرية. فكم كان من غير اللائق أن يتخلّى عنه أصدقاؤه ويخونه الذين اتبعوه كمسيح وابن الله العظيم ورسوله1"، كما قال الفيلسوف الروماني سيلسوس في القرن الثاني. ما كان غريباً بالنسبة لرجل من العصور القديمة هو أن يسوع قد أعلن وصية محبة الأعداء وجعل واجباً على المؤمنين إعطاء الأولوية للمرضى والفقراء والمُحرومين. لقد كان هذا انقلابًا أنثروبولوجيًا قلب كل شيء رأسًا على عقب، ووضع الدنيء فوق النبيل، وهو ما لم يتوقف فريدريك نيتشه، العاشق الكبير للقوة والأرستقراطية، عن شجبه بعد ذلك.
وطن مشترك
في قصة الآلام، يُقدم يسوع نفسه كممثل لجميع المُهانين في العالم، حاملاً عبء معاناتهم على عاتقه. هذا التوجه يُعد عبقرية المسيحية وفرادتها المطلقة، حيث تُقدم للبشرية عهدًا جديدًا قائمًا على إله إنسان، يجمع بين نقاط ضعف الإنسان الأول وتجاوز الإنسان الثاني. وما زال المعاصرون مندهشين من نجاح هذه الطائفة الغامضة في الانتشار بين جموع من المتعصبين والمتزمتين والمعالجين الذين سكنوا الجليل في ذلك الوقت. إن ابن الإنسان لم يعظ الأغنياء أو الأبرار, بل الخطاة والفاسقين واللصوص والساقطين. وجعل نفسه متواضعًا بين المتواضعين. إن تعنته ليس من هذا العالم وينسف كل المؤسسات، حتى مؤسسات الكنائس. وبهذا المزيج من الدعة والعدوانية التي تميز الأناجيل، يدعو إلى تمرد ضد الأقوياء الذين سيشكلون العالم الغربي كله، بما في ذلك مذاهب العلمانية الكبرى للحداثة. من هي الطبقة العاملة في الماركسية إن لم تكن جسد المسيح المُكوّن ككتلة ثورية لقلب التاريخ وإقامة المجتمع المثالي؟ من هي الأقليات في "الوعي" إن لم تكن أيقونات مسيحية يجب احترامها قبل كل شيء؟ إن ما يشرعنهم هو بؤسهم، خاصة عندما يُكتب هذا البؤس بصيغة الجمع من خلال "التقاطعية"2 (كيمبرلي كرينشو)، وهو تقاطع العديد من مظاهر الاضطهاد. تقلب المسيحية الهرم الاجتماعي وتمنح الأولوية للمُهانين على القوة الغاشمة. لغة القوة: "أنا على حق لأنني الأقوى". ولغة الضحية: "ضعفي هو سلاحي وحقي". وتتضمن لغة الضحية نوعًا من التجاوز والقداسة، فجرح الضحية هو جرحي، وحاجته تُلزمنا مساعدته.
نحن نعلم إن شبه الوهية الضعيف هي جوهر الحضارة، ونحن ورثة هذه الثورة المسيحية، بكل ما فيها من خير وشر. خلال الألفيتين الماضيتين، غالباً ما تحدّت الثورة المسيحية آراء الكنائس، وساهمت في إرساء حقوق النساء والأطفال والمستغلين والعبيد والمستعمَرين. لكن هناك استراتيجية مشتقة تطعمت بهذا الاختراع: موقف الضحية، الذي يمكن العثور عليه على مستوى الدولة والفرد على حد سواء. ويبدو أنه أقوى في البلدان الغنية، التي تكرس نفسها للملذات المادية وغير راضية بنيويًا عن نصيبها. إن آلهتنا لا تتكون إلا من المطحونين والمسحوقين. وهم وحدهم المؤهلون لتعاطفنا، ونحن نكتشف كل يوم أشخاصًا جددًا. لقد أصبحت الشكوى شغفًا ديمقراطيًا عظيمًا، حتى إن المُتمتعين بالامتيازات يُريدون لعب دور المُحرومين. وأصبحت الحرية، وقدرة الفرد على عيش حياته كما يشاء، بمثابة إذن مُمنوح للجميع لندبة مصيرهم.
احترام معاناتي
إن كلمة ضحية متعددة المعاني: أن تكون هدفًا للسرقة أو الاغتصاب أو وقوع حادث أو تعذيب ليس هو الشيء نفسه. ولكن في هذا المجال يكون الصعود إلى التطرف سريعا ويعزز الارتباك. كل شخص يوائم بين حالته وحالة الشخص الأكثر تأثرًا. يطالب الناس: “احترموا معاناتي”. "اثبتوا لي أنكم تعانون"، هذا ما تطالب به الدولة وشركات التأمين والرأي العام ووسائل الإعلام. ما الذي يجب فعله حيال أولئك الذين لم يعانوا بما فيه الكفاية أو بالقليل، أي الأغلبية؟ من الناحية التقليدية، كان الحصول على صفة الضحية من المؤرخ أو من المحاكم: المؤرخ يصف واقع المجزرة، والمحاكم تقر هذا الواقع وترتب عليه النتائج. كانت هذه هي عملية الاعتراف الطويلة، التي غالبًا ما تكرسها الدول أو الحكومات في المراسم الرسمية. ولكن في هذه الأيام، في عصر نفاد الصبر الذي تضخّمه شبكات التواصل الاجتماعي، يريد الناس أن يتوّجوا أنفسهم شهداء من خلال تسريع العملية: انظروا على سبيل المثال "دراسات المظالم3" في الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الأقسام الجامعية للمظالم التي تمس جميع أنواع الفئات، البدناء، والنساء، والأقليات، والشواذ، والمثليين، والمثليات، والمتحولين جنسيًا، وما إلى ذلك، والذين يمنحون أنفسهم هذا اللقب منذ البداية، إذا جاز التعبير. كان على الأرمن والمبعدين والعبيد والمستعمرين والحركيين والمثليين أن ينتظروا وقتا طويلا للاعتراف بهم. ونحن لم تعد لدينا الشجاعة للانتظار، بل نريد الوصول إلى لقب المظلوم على الفور. ما هو الإيذاء؟ إنه هوية سردية ننسبها لأنفسنا ونتوقع من الآخرين تأكيدها لنا. إنه يشكل مرض الاعتراف، والرغبة في تحديد هويتك من دون الحاجة إلى تقديم نفسك.
لقد حلّت "أحلام الضحية" المكثفة في القرن الحادي والعشرين محل "أحلام البطولة" المكثفة في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهذا هو نتيجة لثلاثة انقلابات: تحوّل البحث عن السعادة من سعى محموم إلى هوس محموم بالتعاسة. وضمت المعاناة إلى إمبراطوريتها مجالات لم تكن خاضعة لولايتها. وأخيرًا، تزيد الوعود الديمقراطية، التي لم تتحقق دائمًا، من الاستياء وتضع الشكاوى في مركز الوعي النفسي المعاصر. ببساطة، تخطئ الأيديولوجية الضحية ثلاث مرات: فهي تشوه الثبات الطبيعي لكل شخص أمام الشر. كما أنها تعكس الأولويات: تحت مظهر حماية الضعفاء، تضاعف على نحو غير مشروع من الضحايا الزائفين الذين يمحون الضحايا الحقيقيين. وأخيرًا، تصبح حجة للقتلة الذين يتحججون بهذه الغطاء لارتكاب جرائمهم.
الخيارات الملعونة
في الماضي، كان يُضخى بالضحية، رجلًا كان أو امرأة، بالحرق أو الشنق أو الإعدام من دون محاكمة، لإصلاح مجتمع ممزق. كانوا يحرقون وأحيانًا يقدسون. أما اليوم، فعلى العكس: نقدس أولاً، ثم نضحي. بعد عام 1945 وبعد المحرقة النازية (الهولوكوست)، رُفعت شخصية اليهودي إلى مرتبة عالية ثم انقلبت عندما أصبحت شخصية الإسرائيلي المتهم بكل شرور الاستعمار والعنصرية والإمبريالية. لقد تحول الخيار المبارك إلى لعنة: فبعد أن كان اليهودي نموذجًا يُحتذى به، أصبح خصمًا يجب القضاء عليه ليحل محله.
يتداول على نطاق واسع تنافس بين الأشخاص المنكوبين الذين يسعون لرفع أصواتهم بصورة أعلى، حيث يتبادلون التباكي ويروجون لصورة الشهيد، مما يغذي شغفين كبيرين هما الانتقام والحقد. وسواء كانوا عنصريين بيض أو سود، أو إسلاميين متطرفين، أو من ذوي النزعة الرجولية القساة، أو النسوية الجديدة الغاضبة، أو حماة البيئة الثائرين، أو من أنصار الحركات السلافية المتطرفة، أو دعاة العثمانية الجدد الذين يسعون إلى الإنتقام، يدّعي كل منهم مجداً أو كارثةً تعودد إلى الماضي لاتهام أعدائه. كم من الدول المستقلة تستند إلى البلد الاستعماري السابق لمواصلة استغلال شعوبها؟ إن الاتجاه الطبيعي لكل مضطَهد، بمجرد وصوله إلى السلطة، هو تحوله إلى مضطِهد. إن الشعور بالضحية هو نوع من العدوانية: كلما منحت نفسك الشفقة، كلما شعرت بالحق في معاقبة أولئك الذين تعتبرهم أعداء. إن التباكي يحمل غضبًا وعداءًا.
إن الاهتمام بالمذلين هو عظمة الإنسانية. أما الإيذاء واستغلال التضحية كوسيلة للابتزاز فهو الوجه الآخر المظلم لهذا التقدم. وتتمثل مرحلته في محو التعساء الحقيقيين لصالح المنبوذين الكرنفاليين الذين لا يميزهم سوى أنهم يمتلكون الشبكات والشهرة التي تسمح لهم بفرض أنفسهم. إنهم يستغلون لغة المضطهدين لاغتصاب المنصب. يدخلون في حرب كلامية، يأخذونهم رهائن ويختطفونهم. من أعلى درجات السلم الاجتماعي إلى أسفله، ويلوّح كل واحد منهم ببرائته من اللعنة التي ترفعه فوق أقرانه. إنها صورة غريبة من البؤس الإحترافي الذي ينتشر في بلداننا ويتخطى جميع الطبقات الاجتماعية. وعليه كيف نميز المزورين والغشاشين عن غيرهم؟
يتضمن هذا الكتاب ثلاثة أجزاء: يبحث في الأول، كيف أن رسالة النهضة والثورة، تلك التي تتحدث عن عالم أفضل خالٍ من اليأس والتعصب، تؤدي إلى مجتمع يملأه البكاء والهشاشة، أي الاستسلام. وفي الجزءالثاني، يبين كيف أن وضعية الشخص المنبوذ تمكنه من الاحتفاظ بالحقوق كافة ، خاصة حق الاتهام والقمع باسم الضرر الذي لحقه. في الجزء الأخير يتأمل في شخصيتي الجلاد والبطل. وكيف يصنع كل من البطل والضحية التوافق، كل على طريقته، الأول يطمئن المجتمعات المبتلاة بالشك، والثاني يعيد بناء العقد الاجتماعي عبر تمزقاته. كلاهما يحتاج إلى جمهور يدعمهما. نحن نتغذى على البائسين بينما نمجد الشجعان الذين يعززون صورتنا. ولكننا أيضًا نشعر بالتخمة، والرعب بقدر ما نحن مبهورين، بالوحوش التي تقتل بدافع السادية أو تتنكر في هيئة شهداء لارتكاب فظائعها.
لماذا تعتبر بيئة الضحية أرضا خصبة إلى هذا الحد؟ لقد أصبحت المعاناة، على نحو متناقض، في الغرب الذي يسعى إلى المتعة، قدسا جديدا يخدر العقل. في السابق، كانت المعاناة شيئًا شائعًا في الحياة البشرية، وهي الآن جواز سفر نتباهى به لإبهار معاصرينا. فهي توفر لك هوية مفترضة، وتحوّلك إلى كائن استثنائي يمكنه تأكيد نفسه بتكاليف زهيدة على المسرح العام. هذه هي رسالة عصرنا: أنتم جميعًا محرومون مُخوّل لكم بالبكاء على أنفسكم. الحلم الأسمى هو أن تصبح شهيدًا من دون أن تعاني من أي شيء آخر سوى سوء حظ يوم ميلادك.
الهوامش
*مؤرخ إغريقي شهير، صاحب كتاب تاريخ الحرب البيلوبونيسية ويعد أول المؤرخين الإغريق الذين أعطوا للعوامل الاقتصادية والاجتماعية أهمية خاصة.
1. مقتبس من جان فرانسوا براونشتاين، الدين يستيقظ، دار غراسيه، 2022، ص. 25
2. كيمبرلي كرينشو (1959)، محامية وناشطة اخترعت مفهوم التقاطعية في عام 1989.
3. صاغ بيتر بوغوسيان، وجيمس ليندسي، وهيلين بلوكروز هذا المصطلح في 2017-2018 لانتقاد ما اعتبروه افقارًا للعمل الأكاديمي حول العرق والنوع والجنس والبدناء.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة