الفنانون المعاصرون ليسوا بذلك السوء

ثقافة 2024/04/17
...

يقظان التقي

ماذا يساوي “الفن المعاصر”،  سؤال تطرحه عالمة الاجتماع ناتالي هاينيش بالمقارنة أو امتداداً للفن الكلاسيكي وفي إطار السوق الفنية المالية العالمية اليوم، وهي تشير إلى أن الفنانين المعاصرين ليسوا بذلك السوء ، أو غير مرغوب بهم ويملكون منطلقاً فنياً معيّناً، قد يكون مختلفاً عن الفن الحديث بالإشارة إلى عناصر اختلاف له بين الفن المعاصر والفن الحديث.
هنا حوار أجرته «لونوفيل اوبسرفاتور» مع عالمة الاجتماع مديرة مركز الأبحاث في الفن المعاصر على هامش إصدار كتابها “ نموذج الفن المعاصر “ ، عن “ دار غاليمار “ الفرنسية ، أبحاث دأبت عليها منذ ثلاثين سنة .
 أنت تؤكدين في كتابك الجديد أن الفن المعاصر ليس امتداداً بسيطاً للفن الحديث. لكنه يكتشف ما يشير إليه عنوان كتابك «نموذج الفن المعاصر» بمنطق آخر مختلف؟
- - عندي رغبة باستخدام مصطلح «الفن المعاصر» «والفن الحديث» كمصطلحين متشابهين ومتساووين ، ولكن بفرق وحيد في «كرونولوجيك». وهذا خطأ. هناك اختلاف في المصطلحين والمفهومين. هناك اختلاف بين الفن المعاصر والفن الحديث، كما هناك اختلاف بين الفن الحديث والفن الكلاسيكي..
كل مصطلح يمكن تمييزه بمجموعة قواعد وقوانين ألعاب مضمرة. وهو ما يسميه توماس كوهين “الفردوس”.
الفن الحديث يرتكز على انتهاك وخرق قواعد التصوير والوجه الكلاسيكي (الانطباعية، التكعيبية والسوريالية..) -الفن المعاصر يخترق المفهوم نفسه للعمل الفني كما تعارفنا عليه. على سبيل المثال لن يكون مشغولاً بيد الفنان بل من قبل شخص ثالث أو مجموعة حتى. العمل الفني لن يبقى محصوراً في صناعة واختراع الأشياء، ولكن أيضاً في صناعة المفاهيم ومن النقاشات التي تلي صناعة العمل وردات الفعل التي يثيرها..
التأليف الفني يمكن أن يكون سريع الزوال أو تطورياً، في بعض مداده أو تجديفياً أو حتى غير لائق (...). ظهر تيار في سنوات الثمانينات «التصويري» (Simulationnisme) ويعرض إمحاء كل فقرة أساسية للعمل، لأنه يعرض وباستقامة ودقة كبيرين لأعمال هي أصلاً موجودة، بمعنى آخر الفن المعاصر هو اختراع أو اكتشاف مستمر بأشكال اختبارية وتجريبية للحدود الأنطولوجية الفنية والأخلاقية. ومن هنا العنف في الردود والتأثيرات التي يحدثها.
داميان هيرست وجيف كونّز هما أكثر وجهان من الممثلين اليوم للفن المعاصر، هل يوضحان هذا «الفردوس»؟
- - حتى ولو لم يكونا سوى ظاهرة في الفن المعاصر، فإنهما يمثلان صورة عن القطع مع مفاهيم الفن الحديث. (...) كلاهما لا يخفيان أنهما حققا أرباحاً ضخمة من الأموال وأنفقا الكثير الكثير أيضاً.
إنهما من الراعين الكبار واللذين قدّما مع أصحاب المتاحف والغاليريات العشرات من الأشخاص الذين عرضوا أعمالم، وعملا أي داميان وجيف على إبراز تلك الأسماء في الصفحات الثقافية والشعبية.
هيرست عرض لتأليف عبارة تجهيز فني لثور مقطوع الى نصفين وموضوع في مادة «الغورسول». بينما جيف بنى شبكة علاقات فنية مهمة مع عدد من مقتني الأعمال الفنية الجدد ربطاً بالسوق الفنية العالمية لا سيما الطبقة البرجوازية في البلدان الناشئة. وخلال خمسين سنة شكلت قناعة ارستقراطية مالية حملت مئات الأعمال الفنية الى أسعار مضخمة وخيالية.
الفن المعاصر الموجود منذ ستين سنة لا يختزل طبعاً بهذا التحول الحديث والمتطرف: هناك اتجاهات وتيارات أكثر ثقافية وأكثر حسية وتعبيرية أخذت اهتماماً واسعاً من النقاد الفنيين على مثال جوزف بوير أو دانيال بورين أو كريستيان بولفانسكي، ليل فيولا، جيمس توريّل وآبينش كابور وإذا صعدنا أكثر في الوقت مارسيل دوشامب.(...).
الفن المعاصر يتميز أيضاً بنظام جديد من العرض والتسويق وأيضاً من إعادة التعرف على الفنان؟
- -هناك، حدث تغيير في «الفردوس» في الفن الحديث عملية التعرف على الفنان الجديد غالياً ما تجري في الغاليريات وعلى يد مجموعة من مقتني الأعمال مما يقود بالنهاية الأعمال الى المتاحف وبالنهاية الى الجمهور.
في الفن المعاصر الشخص الأساس مع الناقد الفني هو منظم المعرض أو راعي العرض وهي مهنة نسبياً تأخذ بعداً جديداً. منظم المعرض ومستثمر اللوحات يحضر كل شيء، صالة العرض والمتحف وطرق مشاركة الفنانين في البنيان الفني، وفي مراكز المعارض الكبرى وفي التسويق وحصد الشهرة الشعبية وصولاً الى «الفقاعة» في السنوات العشر الأخيرة حيث تلعب السوق دوراً كبيراً، أقله في تكريس هذا الاسم أو ذاك، وهي أسماء يجري الإعداد لها جيداً.
رجال أعمال؟...
- بعض الفنانين يتحولون إلى رجال أعمال وبعض رجال الأعمال هم أصحاب مجموعات فنية وبفعالية كبرى. الفن المعاصر هل يصير مرآة لعصر يدار بالمال؟
- - دائماً كان امتلاك عمل فني هو وسيلة من وسائل التعبير عن الحظوة والمكانة الاجتماعية. ندرة القطعة الفنية وكونها تحف فنية مجهولة تقوي أشكال المضاربة في البورصة وتشد النظر إليها. لكن ليس أكثر ما يكن رابح لم يكن سوى مرآة القوة البابوية. الفن المعاصر لا يمكن اختزاله بمرآة للمال الحديث هذا سبب من الأسباب.
الفن المعاصر اليوم مثل العالم التجاري المعولم والمعروضات الفنية تجول العالم في دورات فنية مثل أسعار البورصة وتموجاتها وتذبذباتها وعلى غرار الأسهم الأسمية التي تمتد فقاعات مالية أحياناً تتلاشى وتزول بسرعة فائقة.
هناك العلاقة مع الوقت، والعلاقة مع الثابت الثقافي في المكان والثقافة المعاصرة. والوسطاء الذين يبحثون عن تسويق أسماء فنية جديدة هم في غالبيتهم من العنصر الشبابي ويشتغلون على نافذة مهمة وهي إخفاء صفة العالمية على أسماء تكون محلية وبمجرد تنظيم معارض كبرى تختلط فيها المعايير والمقاربات يحدث هذا الاختراق. هؤلاء الوسطاء ينجحون ونرى أسماء فنية جديدة يعيشون ساعة المجد الفني ويسقطون فجأة بعدها في الخفاء.
الماضي يجري إغفاله سريعاً سريعاً. الفنانون يصلون إلى الشهرة بعد ثقافة مركّزة أكثر وأكثر على الوقت الحاضر وبعض النقاد التشكيليين أيضاً. ولا يوجد حالياً مجموعات فنية ، أو أسماء معينة تحلق في المدينة وحول الوسط الأدبي والثقافي كما هو الحال في الفن الحديث وفي الموجة الأولى من الفن المعاصر. ثم الاتجاه الآخر الذي يتعزز مع نرجسية فردية متصاعدة.
بالعمق، التساؤل هو عمّا يبحث الفنان المعاصر؟
- -الفنان الحداثي هدم القواعد الأكاديمية في وجوه التصوير التشكيلي تحت عنوان الطلب الرومنطيقي: - التعبير الداخلي (...) الفنان المعاصر اخترق أيضاً هذا الطلب والوجدانية تحولت الى مادة مقولبة تكراراً لحركة معيّنة أو لكلام بذاته أو لحاجات ما على نحو ملصقات داندي، أو أشياء تخترق العرف والتقاليد والرأي العام والأخلاق الشائعة .
جيف كوميز نفسه كان قد صرح: “السوق هي أفضل النقاد”، عملي لا يحمل أي قيمة جمالية. أعتقد أن الذوق لا قيمة له هنا اطلاقاً». أيضاً موريزيو كابتلان يروي كيف أنه في واحد من معارضه أقنع عدداً من أصحاب الغاليريات بارتداء ثياب طرزان وجين ونظم جولات فنية. كان الفنان في الماضي ملعوناً وفرعياً، مجهولاً وتعيساً بقوة.
في الألفية الثالثة تعرض أفكار أكثر شذوذاً ومخالفة للصواب، مشاريع فنية غريبة من دون أن تضع المؤسسات الفنية حدوداً لها. على العكس المؤسسات تشجع هذا الاتجاه وتدعم مبادرات واقتراحات على نحو يجد فيه الفنان نفسه مشحوناً بقبول شعبي يستعرض مع فانتازية وإلى الحدود القصوى وبفعالية.
كتابك لا يحمل أحكاماً مباشرة أو واضحة، ولكن قد نفهم من خلال المقاربة الشاملة أنك تعارضين المسألة باعتبارك الفن المعاصر هو مشروع سلبي؟
- -أنا أشتغل على هذا الموضوع منذ ثلاثين سنة تقريباً وأعالج المسألة ليس فقط من زاوية النقد الفني وإنما أيضاً من زاوية علم الاجتماع. أعتقد أن دور الباحث ليس إسقاط هذه الأفكار أو تلك، ولكن إظهار القيم المخفية أكثر.
بالنسبة للبعض الفن المعاصر هو عامل كاشف ورسم كاريكاتوري مؤسف ومحزن للعارضين الأكثر طفولية في العصر.
بالنسبة لآخرين العكس تماماً، الفن المعاصرة هو أداة تعبير وآلية تعبير انعكاس مدهش لأفكار العصر، وآلية تطهير نفسي ولا شعوري صحي ومقبول.
بالنسبة لي شخصياً كثير من الأفكار الفنية المعاصرة عادي جداً لا بل تافه، بعض الاعتبارات المطروحة تظهر أحياناً رائعة، البعض الآخر المعروض علينا من دون أي قيمة وعامي.
يبقى، هي واحدة من الصفات الكبرى للفن المعاصر، هي الدفع للتأمل والتفكير، أو أن نكون في موضوع الإثارة نتيجة فترة ما، اقتراح فني ما، مشروع تجريب ينتمي بالنهاية إلى عصرنا.