د. نادية هناوي
ليس يسيرا تحديد الزمان الذي فيه قننتْ النظرية السردية تعريف السرد وحددت أبعاده المفاهيمية، وعلى الرغم من ذلك، فإن منظري المدرسة الانجلوامريكية يرون أن الحاجة ماسة إلى إعادة تعريف السرد، مستجيبين لرغبة كبيرة في أن يجاروا المدارس النقدية التي سبقتهم وأحيانا مغالبتها. ولعل أكثر الأدلة وضوحا تتمثل في قصدية اعتمادهم المرجعي على ما أتى به النقاد الأمريكان من رؤى وتصورات من أجل تفنيد أو نقض أو تصحيح توصلات تلك المدارس بقصد البناء عليها أو استبدالها. هذا ما نجده جليا في كتاب( مقدمة كامبردج للسرد) للمنظر الأمريكي بورتر أبود Porter Abbott وصدر بطبعته الأولى عام 2002 وأعيد طبعه أكثر من مرة، وآخرها كان في عام 2020.
ويضم الكتاب اثني عشر فصلا تناولت موضوعات سردية مختلفة، كان للمدرسة الفرنسية قصب السبق في طرحها. ومن ذلك تعريف السرد، وناقشه أبود في الفصل الثاني مبينا أن السرد هو تمثيل حدث أو سلسلة من الأحداث، وأن من دون الحدث لا يكون ثمة سرد، بل هو وصف أو عرض أو قصيدة غنائية أو مزيج من هذه كلها أو أي شيء آخر أيضا. ومثاله جملة( “كلبي لديه براغيث” هو وصف لكلبي، لكنه ليس قصة لأنه لا شيء يحدث في حين جملة “لقد عض برغوث كلبي” قصة لأنها تحكي عن حدث ما، حدث صغير جدًا – لدغة برغوث – وهذا يكفي لجعله قصة).
وتتبع ما قاله العلماء وما جادلوا فيه فوجد أن بعضا منهم أكد ضرورة وجود حدث واحد على الأقل ليكون هناك سرد، وبعضهم الاخر مثل( رولان بارت، ريمون كينان) رأى أن السرد يتطلب حدثين في الأقل، الواحد تلو الآخر، وذهب عدد غير قليل آخر إلى أبعد من ذلك، إذ أوجب على السرد أن يتكون من أحداث مرتبطة ارتباطًا سببيًا ( ميك بال، بوردويل، ريتشاردسون).
ويرفض بورتر أبود هذه التحديدات، والسبب أن مجال السرد غني جدًا لدرجة أنه سيكون من الخطأ -برأيه- تحديد تعريف معين للسرد يقيده بالحدث الواحد أو مجموعة الأحداث أو يقرنه بالشعور بعلاقة سببية بين الأحداث. واقترح من ثم تعريفا جديدا للسرد هو( القدرة على تمثيل حدث ما، سواء بالكلمات أو بطريقة أخرى تنم عن موهبة وتنتج لبنات، عليها تُبنى مختلف أشكال السرد الأكثر تعقيدًا).
ووفقا لهذا التعريف، يكون السرد على نوعين سرد صغير تمثله أعمال قصصية بسيطة التمثيل وسرد كبير تمثله أعمال روائية طويلة، معقدة اللبنات. ويرى أبود في هذا التنويع سببا يقتضي جدلا حول ما ينبغي أن يكونه السرد. وأول من يستشهد برؤاهم، الامريكية ماري لوري رايان التي صاغت الأمر كالاتي( السرد هو “مجموعة غير واضحة لكنها محددة في مركز ذي جوهر صلب من السمات، ومع ذلك تقبل درجات مختلفة من الانتساب”). ومثالها رواية جون بنيان “النعمة الكثيرة” (1666)، و”الأرض اليباب” (1922) لـ ت. س. إليوت، و”اللامسمى” (1953) لصامويل بيكيت، و”مناورات أواخر الليل” (1993) لتوم ماكهارج، فهذه الأعمال مليئة بالسرديات الكلية والسرديات الجزئية المايكروية. ولذلك يتردد الكثيرون في تجنيسها، إذ ليس الطول شرطا في التجنيس، فقد يكون النص طويلا ولكن لا تماسك سرديا فيه كما هو الحال في الأرض اليباب. وقد لا يكون النص طويلا كما هو الحال مع القصة القصيرة، ومع ذلك فيه ارتباط سردي كاف لان يكون متماسكا.
التعريف الاخر الذي يناقشه أبود هو للأمريكي جيرالد برنس وورد في كتابه( قاموس السرديات) وفيه أن( السرد واحد أو أكثر من الأحداث الحقيقية أو الخيالية، يتم توصيلها بواسطة واحد أو اثنين أو عدة رواة.. وفي الأداء الدرامي تقدم الأحداث مباشرة على خشبة المسرح بدلًا من أن يتم تسريدها. ) وأشار أبود إلى أن برنس وسَّع في الطبعة الثانية من كتابه (2003)، تعريف السرد لكن منظري السرد لم يأخذوا به وظلوا متمسكين بالتعريف القائل إن السرد( وسيلة للعرض اللفظي ويتضمن سردا لغويا للأحداث) فهم يرون أن السرد يتطلب ساردا في حين أن الأفلام والمسرحيات نادرًا ما تحتاج سرادا بل تعتمد بدلاً من ذلك على التمثيل وعناصر أخرى لتوصيل القصة، تقع خارج التعريف أعلاه، ومن ثم يكون تقييد السرد بالسارد- برأي أبود- ( قيدًا لا داعي له) لوجود ممثلين وكاميرات يمكن استخدامها في تمثيل الأحداث كما أن الأدوات الثابتة الصامتة مثل اللوحات يمكن لها أن تؤدي فعل السرد أيضا، مؤكدا أن الفرق بين الأحداث وتمثيلها هو الفرق بين القصة كحدث أو سلسلة أحداث وبين الخطاب السردي ونقل القصة.
إن ما يريد أبود الوصول إليه هو أن السرد تمثيل وليس عرضا، مبينا أن المنظرين السابقين اعتمدوا الفهم الأرسطي للتمثيل بوصفه (إعادة عرض القصص التي يتم سردها). وما يراه أبود هو أن السرد في كلا الأمرين هو عبارة عن قصص وسيطة، تشارك في إعادة العرض سواء تحققت بالكلمات أو بالتمثيل على خشبة المسرح ومن ثم تكون القصة بطريقة ما سابقة على السرد. وهو ما يفضي إلى ما سماه سيمور تشاتمان المنطق الزماني للسرد. ذلك أن ما يجعل السرد فريدًا بين أنواع الفنون هو منطقه الزماني المزدوج الذي يستلزم الحركة عبر الزمان ليس من الناحية الخارجية “مدة عرض الرواية أو الفيلم أو المسرحية” ولكن أيضًا من الناحية الداخلية “مدة تسلسل الأحداث التي تشكل الحبكة”. الأول يعمل في البعد السردي للخطاب، والثاني يعمل في القصة. أما النصوص غير السردية كالمقال مثلا فلا تتضمن أي تسلسل زماني داخلي مع أنها تستغرق وقتًا في القراءة أو المشاهدة أو الاستماع لأن بنياتها الأساسية ثابتة أي غير زمانية. في حين أن قراءة قصة ما، تحتاج وقتا للقراءة وترتيب ما تتم قراءته من أحداث القصة.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للاهتمام -بحسب أبود -هو أننا نستطيع أن نروي هذه القصة بطريقة عكسية متحكمين في التسلسل الزمني للأحداث وقد نجري عدة تغييرات أخرى على الخطاب السردي مع الاستمرار في التعامل مع القصة نفسها، على سبيل المثال، تغيير وجهة النظر من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب وتوسيع الخطاب السردي عبر التوقف عند لحظة في منتصف السلسلة وهي ما تزال مستمرة في عرض أحداثها.