حيدر علي الاسدي
كل النظريات التاريخية والجمالية والأسلوبية والكلاسيكية والرومانسية والتطورية لم تكن قادرة على مصادرة النص الأدبي بمختلف أجناسه، فالنص هو العتبة الأولى لأي عمل سواء كان أدباً أو ضمن نطاق الفنون الجميلة، حتى تلك الفنون التي تتسم بطابعها المرئي، ولكن تبقى جدلية الكتابة قائمة مع سيرورة التطور فكري وفلسفي يتسم بتحولات تجري على المستوى الفكري والتقني. ومع موجة التطورات التقنية التي احدثتها الثورة الصناعية ودخول مفاهيم جديدة لحياتنا في مختلف مساراتها، ومنها المجالات الثقافية فإن الذكاء الاصطناعي حاول أن يقترب من جماليات الفنون ويؤسس لفعل موازٍ لها من خلال الجوانب التقنية، وعملية ملء المعلومات بصورة مسبقة في ظل هذا السيل الكبير لتدفق المعلومات عبر الشبكة العنكبوتية.
قرأت قبل مدة أن ثمة كاتب غربي "بريت شيكلر" أنشأ كتابا إلكترونيا للأطفال مكوناً من 30 صفحة في غضون ساعات باستخدام برنامج "شات جي بي تي"، والكتاب ادرج للبيع في "امازون" ومنصة "كيندل" بهدف تعليم الأطفال على كيفية توفير المال، وصدر كذلك في جامعة الملك عبدالعزيز في السعودية كتاب تحت عنوان "في أدب الذكاء الاصطناعي: الرؤية والنص" بهدف التعرف على ملامح تطور حركة النص في أدب الذكاء الاصطناعي على اعتبار أن هذا الأمر يمثل تحولا مركزيا في عملية صياغة الخطاب المشترك بين الإنسان والآلة. وكان من بين المنظرين البارزين في هذا الصدد هو "فيليب بوتز" الذي تحدث في كتابه المهم "ما الادب الرقمي؟" عن التحولات الجذرية في الممارسات الثقافية في عصر التطورات الرقمية، ومنها مسألة التداخل بين النصوص والوسائط الأخرى. لكن هنا لابد من الإشارة إلى أن تقدم الذكاء الاصطناعي في مجالات الابداع الادبي يأتي من محاولة انشاء خوارزميات تستطيع توليد النص تتسم بالنسقية والانسجام والسلامة اللغوية، اذ يتم اعتماد نماذج الذكاء الاصطناعي من قبيل
GPT-3 من OpenAI لإنتاج مجموعة النصوص لمختلف الاجناس الأدبية.
ولكن هل ما ينتج هنا من كتابة عبر الذكاء الاصطناعي يعد ابداعاً حقيقياً أم أنها مجرد خوارزميات تكرر نمطية الكتابة بصورتها المسبقة، أو المتاحة مسبقاً؟ ذلك لأن الإنسان (مبدع النص البشري) يمتلك اخيلة وفكر فلسفي ورؤية وينتج النصوص عبر الافتراض المتخيل الذي قد لا يمكن لأي ذكاء اصطناعي أن ينتج مثله فهو |"أي الكاتب البشري المبدع" يعمل على انتاج "جماليات صورية" في بنية نصه الأدبي. وهذا ما يصعب على الخوارزميات التي تتسم بالأنماط المكررة التي تملى بصورة مسبقة كما اسلفنا، وإن اعترف بعض الكتاب في العالم باللجوء إلى الذكاء الاصطناعي في بعض من كتاباتهم إلا أنها تبدو ضمن الأطر الشكلية، ربما جيدة من حيث التسلسل أو اللغة والنحو، ولكن صعوبة أن ينتج هذا الذكاء صورة شعرية أو جملة سردية ذات صور متخيلة افتراضية تهز (المتلقي) وتحيله إلى وقائعيات يعيشها أو مرت به من ضمن نسق ألهم الإنساني المشترك.
فمهما تقدم الذكاء الاصطناعي في تطوير خوارزمياه باتجاه انتاج نصوص أدبية تقارع ما ينتجه الجنس البشري من ابداعات في مجال الكتابة ستبقى كتابة (الالكترون) كتابة جامدة وشكلية لا تتسم ببعدها الجمالي والذي هو سر من أسرار صياغة موضوع ينفذ إلى ذهن المتلقي بحيث تكون ثمة جمالية في عملية التلقي تهزه وتشعره بالإحساس الإنساني في عملية التفاعل مع هذا النص على عكس النص الرقمي بالكامل والذي يفتقد لهذا الإحساس البشري القائم على التعايش بين بني البشر ضمن المنظومة المجتمعية والسيكولوجية وبالتالي إنتاج نص من وحي الواقع ومن معاناة الواقع على عكس الخوارزميات التي تنتج نصوصا ترتكز على البناء الشكلي وحسب، وهي فاقدة لأبسط الاحاسيس والمشاعر البشرية التي يمتاز بها النص البشري، وهو سر خلود العديد من القصص والروايات والنصوص المسرحية والشعرية، لأنها كانت تمتاز بطابعها الإنساني.
ومن هنا لا أجد أية مخاوف من الممكن أن تشغل المثقف والمبدع، لأن النص البشري لا يمكن العبور عليه إلا من النواحي الشكلية، أما الدلالة والجوهر وصياغة الصور وتخيل الأفكار الإبداعية وإنتاج المعاني من خلال الصور والاحاسيس، فهي ملك الإنسان والذي يعد افضل من امتلك ناصية التعبير على الامتداد. وبالتالي لا يمكن لأي تطور الكتروني أن يفقده هذه الميزة والخاصية والتي تتوالد بفعل الخبرة المتراكمة من ضمن البناء المجتمعي والاحساس النفسي بتطوراته ومشكلاته والتي تنتج مندمجة عبر هذه النصوص بمختلف الاجناس، مما يحسن من عملية صياغتها ووصولها إلى المتلقي لأنها من صميم الهم الإنساني.