طالب عبد العزيز
وهي تجف من حولك، وهي تتراجعُ في الصفيحة التي نهش الصدأ جوفها، وهي تنطفئ مثل موقد نسيَ تحت نجمة بعيدة، وهي ترتدي خيط الظلام.. تذكرْها، تأمل كلبها الذي كان، ونهارها الذي لم يبق منه إلا القليل.
لا تُشبهُكَ الطَّرفاءُ بشيء. في الرّملةِ المضيئة، عند ضريحٍ بسجّادةٍ خضراءَ، على نهرٍ بالسبيليات*، حيث الارفف طينٌ، لم تمحو ريازتها أصابعُ الفلّاح بعد، وبمصحفها الوحيد، يكاد السقفُ يجرّه اليه، وبالزعفران حيناً، وبتقاطع العناكبِ على حروفه، رأيتُ من كان يُلقي باللائمة على السُّور، ويتوعدُ السِّدرةَ بمنجل في الغروب. رأيتُ من يبستْ أوراقُ أسبابه، أنت أيضاً رأيته، يامن كِدتَّ تخرج من الرملة وحيداً، ولا تشبهك الطرفاء بشيء.. لولا وقوفك على الترعة لقلتُ إبتلعتك الظنون. المنازلُ التي خلفنا مازالت تبتعدُ في الدُّفلى، والنساءُ اللواتي ركبّنَ الليلَ تركنَ المخيضَ طافحاً.
***
في كتابٍ مهجور سأعثرُ عليكِ، أيتها الورقةُ الزرقاءُ المدسوسةُ هناك. الطفلُ الذي كتبها بعثتُ بها اليه ثانيةً. الحرفُ الاولُ ديوانيٌّ، وفي السطر الثاني رَسَمَ غزالةً بيضاء، ولأنه كان يدرس النَّحوَ فقد رفع الفاعلَ حدَّ ما يستطيع، ولم يستسلم للنوم، الذي فاجأه في سطرها الثاني عشر، كان نحيلاً وخائفاً، حتى أنَّه لاذ في اسم المفعول. رأيته وهو يغسل قدميه، في صفة مشبّهة على النَّهر، لكنه سارع فأغلق النافذة، صقرٌ جارحٌ مما كان مرسوماً في بيرق آبائه حلّق بعيداً. قلتُ سأعثرُ عليك، في كتب الطلاسم والصور، وفي جامع الرواياتِ، ربما، أمّا في كتب الشعر فلا!. أحتفظ بكراساتِ الرَّسم، أيضاً، لعلها اختفت في تغريدة بلبل أقولُ، وربما طارت مع الفراشات. الورقةُ التي سأجدُها فيها رسمةُ ملاكٍ لم يسمَّ في المصاحفِ بعد.
***
على أيِّ طريقٍ لم أسِرْ؟ وإلى أيِّ وسادةٍ آخذُ براسي، وخلف أيِّ شجرةٍ لم تعانقني بعد، وعند أيِّ مقهى لم نلتق، ووراء أيّ عربةٍ لم نجر، وفي أيِّ جدولٍ لم نلق بجسدينا؟
إذن تعال. أنا أكبُرُ وأنتَ تشيخ، وأنا أذبُلُ وأنت تيبسُ وتجفُّ، أنا أتراجعُ وأنت تختفي، أنا أمشي وأنتَ رصيفٌ يجْمد، أنا أخجلُ من حذائي، يبلى، وأنت في قميصك تذوب، أنت من لثغةٍ بلسانك، وأنا من بُكْمٍ طويل، أنت من عربدةٍ ماضية، وأنا من خفرٍ وعناد. كلانا يصطحبُ كلباً لرحلته. لكنَّ طريقنا إلى المقبرة مختلفٌ، فعلام لا نقتسمُ الليلَ، أنتَ تصفعُه بقبلة، وأنا أضيِّعُه بعناق، أنتّ تدسُّهُ بقميصي وأنا أمزّقهُ عليك، أنت تدفعُ بقدمِك المُلاءةَ، وانا أجمعُ شَعْرك، أعقصهُ فيصير كرةَ رماد، وأنثره فيخفي الندوبَ التي بوجهك، ثم نجلسُ وراء ستارة من المعدن، نجدِّفُ على النَّحو والقمر والنجوم ومقاعدِ الحديقة الفارغة.
***
مثل حوار ينعقد بغفلة عن اللغة، جالسَ بحَّارٌ بائعَ سمكِ، البحَّارُ راكمَ الموجَ على يديه، وبائعُ السَّمك يقول: لكنَّ القواقع لا تصلح للكتابة. وفي فضلة الوقت المركونة في المعجَم كانت المِظلَّةُ تُضيِّقُ بالشمس عليهما، لكنها لا تفصحُ أكثرَ من حرفٍ في السجادة الخضراء، حيث يجلسان، وحيث ينهمرُ ورقُ الاكاسيا ليس بعيداً عمّا أضاعا من حوار البارحة، والمرأةُ التي اصطحبت الكلبَ إلى هنا تركته يلطعَ شاهدة الكلام، ونامت.
***
حتى وهو يطرق النُّحاسَ كانت عينُه زرقاء، صانعُ أقفال المسجد، حتى وهو يأخذها إلى السرير ظلت يده معقودةً، خلفَ ظهره، حتى وهو يملأ دواته بماء الزعفران كان يقبّلها بنحرها أمام المارة.. كل الذين تحدّثوا عن خيلائه كانوا يظنّونه ضابطاً، في البحرية، مع أنه لم يرَ القمرَ اللاصفَ هناك إلا مرةً واحدة. المرأةُ التي كانت معه لا تدلُّ النساءَ على مصففِّ شعْرها، أمّا الرِّيحُ التي كانت ترفع تنورتها عالياً فقد تلبّسها جنٌّ في الارخبيل.
***
لم يعد الوقتُ متاحاً، جرجرت الغابةَ عربةُ الضَّوءِ، وأنِسَ الفلاحون بجَنيّهم. التمرُ والقمحُ إلى سِيفِ الطعام، والزُّبدةُ والأُقُطُ في الجرار الفخّار، والسمكُ مملحٌ ومشنوقٌ في الأجاصة العالية، أما الحطبُ فحزمة إلى أخرى، ولن ينوشها المطرُ الليلةَ، ومن قِنِّ الدجاج كانت تسمعُ صوْصَأةُ الفراخ، الجروُّ، جروُّ سيرجي يسينن يحدِّقُ بالقمر، والكلبةُ الصفراء تلهثُ، مع أنَّ طعامها بالوعاء ذاته. تعلمتُ أفتحُ زجاجةَ الدواء، وأبي هو من وضع المفتاح في قفل الزريبة، هو أيضاً الذي أمرني أنْ أديره ناحيةَ الشَّمال.
***
تُحكمُ غلقَ الباب كأَنْ لا أحدَ يدخل، تفتحُ ذراعَكَ كأنْ لا احدَ يفلته قلبُك، تُصغي للشمس وهي تذوب في النخل كأنْ لا أحدَ يسمَعك، تدعو كأنْ لا أحدَ لم يأتك بباقة الورد. الهواءُ ينتظرُ تحت الكتيبةِ رطْباً، وقاربُك الذي إئتمنته على كواسجك مازال إلى شجرة التوت مذعناً، فيما يدُك تحررُ المصباحَ من قيدِ الرؤيا وطائرٍ يُعجُمه الضباب. سريرك مغطى برائحةِ الخِروع، ومن ظهْركَ ينسلُّ غلامٌ بقدمين أحمرين.
* من قرى ابي الخصيب-جنوب البصرة