جينا سلطان
أثار الروائي الأمريكي دان بروان في روايته "شيفرة دافنشي" الكثير من اللغط حول شخصية مريم المجدلية، دون ملامسة فعلية أو مقاربة لماهيتها كغنوص عرفاني لون الهوية المشرقية وحفظ تجذرها وسط أدغال التاريخ المشوه بفعل الاستعلاء الكولونيالي. لكنه بالمقابل جرد مفهوم الكأس المقدسة من التشيؤ المادي وأعاده إلى صفته ودوره كناقل للحكاية التي تحولت بفعل المشاعر المجهضة المسربلة بالخذلان إلى أسطورة، تكتسب فاعليتها من الإضافات والهوامش الملصقة بها.
من سحر المجدلية المختبئ خلف متاهات العنف التاريخي، ينسج الأسير الفلسطيني باسم خندقجي خيوط القناع الذي يتحدى من خلاله ضيق الأفق عند أصحاب الفكر المنغلق من جهة، ويبحر في ازدواجية الهوية الملتبسة من جهة أخرى. ليؤطر روايته "قناع بلون السماء" بين دفتي تساؤل عن مآل الصبر وعواقب الخذلان الجمعي المريع، يطرحه بلسان شخصيته الأساسية نور الشهدي: "هل سيغدو المخيم بعد سبعين عاما أو أكثر من أكبر المواقع الأثرية التاريخية في العالم الدالة على عمق عقلنة التوحش الانساني؟".
هيأ خندقجي لبطله نور ما يساعده على اقتحام جدار الفعل العنصري في فلسطين، من خلال ملامح أشنكازية واضحة، تستمد قيمتها من المعايير الصهيونية الكولونيالية القائمة على الأحقية الإلهية والتصورات والأحكام المسبقة. مُضافا إليها واقعة عثوره على بطاقة شخصية منسية تعود إلى مستوطن شاب يحمل اسم أور شابيرا، في معطف جلدي عند بائع الملابس المستعملة. وبذلك منحه حصانة القناع ودفعه للتسلل إلى أعماق هذا العالم الكولونيالي، الذي رصده فرانز فانون في كتابه جلود سوداء وأقنعة بيضاء. ويبرز منتهى الألم والتمزق لديه أثناء تجوله في شوارع وميادين تل أبيب والقدس الغربية التي تنتمي إلى هويته المتجذرة في المكان، والمحرَّمة عليه بفعل سطوة الاستيطان. فينتابه الشعور بالخوف والالتباس والتناقض، ويغلبه التوق إلى معجزة تخلصه من إحساسه بالعجز، وتقوده إلى الإيمان بقوة خارقة تجعله بطل أحلامه الخاصة.
تسير الرواية وفق اتجاهين متوازيين، يناقش الأول قضية الهوية والقناع، ويتوغل الثاني في البعد الغنوصي لمريم المجدلية والمتخذ كركيزة لنص إبداعي في طور التخلق. فيستمتع نور بداية بنجاحه في تمرير شخصيته كأور شابيرا، أثناء عمله كمساعد لبعثة تنقيب أمريكية، بعد أن مسته الأرض ببوحها السري. ويدرك أن ممارسة هذا الاسم على أرض الواقع الكولونيالي الصهيوني تجسد انتهاكا لاسم نور الذي انتهكه منذ ولادته من رحم الأزقة في مخيم رام الله، محاطا بروائح الاسمنت والصدأ والرطوبة والطحالب والعفن والخوف والملاحقة. وهو ما يختزله بعبارة: "أقل من إنسان وأكثر من كائن تهالكت هويته وطوردت واصطيدت والتهمت. لا أقنعة في رام الله ولا ملامح.. رام الله هي القناع". لذلك توحد بعمله كدليل للوفود السياحية هاربا من وجه الخواء، والهجران، والخيبة، والصمت، والتصحر، والالتباس، واعتنق القدس للتحرر من أعباء رام الله.
يبتدئ القسم الثاني من الرواية والخاص بالمجدلية بعبارة ليسوع: "طوبى للأسد الذي يأكله الإنسان، فيصير الأسد إنسانا. وملعون الإنسان الذي يأكله الأسد، فيصير الإنسان أسدا"، والتي وردت في انجيل توما الغنوصي. تليها عبارة أخرى يخص بها يسوع تلميذته المجدلية مخاطبا تشدد بطرس الرسول في رؤيته الذكورية: "إن من يلهمه الروح هو المخول بالكلام رجلا كان أم امرأة". وهو ما يشكل مدخلا للتطرق إلى الطقس الاستسراري بين رجل عميق المعرفة وامرأة مكللة بالحكمة، ليتجليا معا متوحدين في كلمة الغنوص النوراني، والتي تختزلها عبارة المجدلية في الإنجيل المأخوذ عنها: "فلنمدح عظمته، لأنه وحدنا وجعل منا إنسانا". والمقصود بـ"إنسانا" بحسب التفسير الغنوصي، الإله ـ العقل المكون من الذكر والأنثى معا، وأصل النور والكائنات جميعها. وهو ما ينعكس في سياق التوحد الروحي مع زميلته في البعثة الشابة الفلسطينية سماء، التي يلتمس فيها حكمة المجدلية.
أثناء التطرق للخطابين الديني البطرسي الذكوري والعرفاني المجدلي الأنثوي، يؤطر خندقجي عبارة المسيح للمجدلية حين تجلى لها في رؤية غنوصية: "طوباك. أنت ما تبلبلت لدى رؤيتي. لأنه حيث الذهن هناك الكنز". فيتخطى نقاش تاريخية المجدلية من عدمها، ويحاول معالجة بيانات تاريخية ودينية خاصة بها، ليحيلها إلى نص روائي شيق ومثير. وهو ما حتم عليه اكتساب الوعي التاريخي الشامل الخاص بالقرن الأول الميلادي ومزامنته مع تشظي الذات بفعل الهوية المزدوجة عند نور، بحيث يعثر على ذاته منعكسة بمرآة أور، الذي يعني اسمه بالعبرية النور. ولأن أحدهما مسيطر والآخر خاضع لذا يجب تحطيم المرآة، وبالتالي حل معادلة التفاصيل الخاصة بها.
جاء نور إلى القدس، المدينة الحلم، عبر إحدى الثغرات في جدار الفصل العنصري، الذي يجسد عتبة تفصل بين عالمين متناقضين؛ عالم المركز وعالم الهامش؛ عالم أور شابيرا وعالم نور الشهدي؛ عالمي الظاهر والباطن. وهذا ما أهله لمعايرة هويته الفلسطينية من خلال مرآة الآخر، صاحب المزايا، والاسم الزاخر بالهوية الاشكنازية الصهيونية، والحقوق التي اخترعها فوق الأرض المقدسة؛ حق الوجود، الحق بالحرية، والحركة، والاستيطان، والاحتلال والاعتقال، الحق بتشريد الفلسطيني ومصادرته ومطاردته وإقصائه وتهميشه. لذلك أراد تعلم الأسماء الصهيونية كلها لكي يقوى على مواجهته، فقد ولد من رحم الصهيونية ومن النكبة التي ألحقتها به. وبالتالي، نور جزء من أور وأور جزء من نور: "وعندما أتعلمك سأقوى على الانفصال عنك وأنت أيضا ستنفصل عني".
يمنح السرد الروائي لخندقجي حياة مطوقة بالجدران، فتعادل الحكاية رمزية تناقل الكأس المقدسة، ويصبح التوقد الذهني المكتسب من عبارة المسيح ".. حيث الذهن هناك الكنز" مؤهلا لامتلاك جرأة تخيل الاسم المغاير؛ جرأة تستمد أهميتها من غياب مفهوم الخسارة في عالم الخسران والنكران، فتتجلى له المجدلية في هيئة مخلصته سماء وتصبح هويته ومآله.