حينما نكتبُ وكأنّنا نلعب

ثقافة 2024/04/22
...

  باقر صاحب 


هناك من المدوّنات ما يسوّق الكتابة وكأنّها لَعِب، وبما أنّنا ندرك بأنّ الغرض الأساسي من كلّ لعبةٍ هو الفوز والخسارة، وهو جلّ اهتمام اللاعبين، فإنّ محصلتها الرئيسة هي المتعة، بغضّ النظر عن الفوز أو الخسارة، ولكي لا نتشتّت بين أنماط الكتابة الابداعية ومتعها المختلفة، نركّز هنا على اللعب السردي، أو متع الكتابة السردية. وسنخوض هنا، في كتابٍ جديدٍ عن اللعب السردي، وهو المعنون ب" لا شيءَ أكثر أهميةً من متعة اللعب/ عشر نظرات في السرد" للناقدة العمانية منى حبراس.

إذا كان لا شيءَ أكثر أهميةَ من متعة اللعب، كما هو عنوان الكتاب، فإنّ حبراس تؤكّد في تقديمها له، على الإمتاع المتحصّل من اكتشاف أيّ قراءةٍ جديدةٍ للنص الأدبي، وتعني أنّ "لكلٍّ منّا نظرته المغايرة التي يستخلص بها معاني ممكنةً لا تشترط موافقة الآخرين بالضرورة". 

وفي استطرادٍ ذي صلةٍ بمتعة اللّعب الكتابي، تشيد حبراس بأسلوب الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، الممتع في كتاباته النقدية، ربّما تقصد مغايرته الأسلوبية للكتابات النقدية الجافّة، لأنّه يؤكّد على ثيمة اللّعب والإمتاع في الكتابة، حينما يقول في حوارٍ معه "صدّقني أنّه لولا وجه اللعب الذي تتّخذه الكتابة، لما كتبت. ما جدوى الكتابة إذا لم نلعبْ بالكلمات والصور والذاكرة".

وهنا نبيّن أنّ اللّعب يشمل الكتابة بنوعيها النصِّية والنقدية، ويوضّح ذلك الروائي العماني سليمان المعمري في معرض قراءته للكتاب، "لعب كتّاب السرد الذين تُرسِلُ المؤلفة نظراتِها فيما يكتبون، ولعبتها هي كناقدة تُدرك أنّ إحدى مهامّ الناقد أن يساعد المتلقي على فهم العمل الأدبي، والانتباه إلى "ألعابه" الفنية وميزاته الجماليّة، ورؤية دقائقه الصغيرة التي لا تُرى إلا بعينٍ فاحصةٍ مُدرَّبة". 

وكلّنا ندرك الارتباط الوثيق بين اللعب والطفولة، هذا الارتباط، ربما يكون  توصيفاً لأحد المبرّرات المهمة لعملية الكتابة، فالكتّاب في جميع الأجناس الإبداعية، غالباً ما يستعيدون طفولتهم باللعب الكتابي، وتذكر حبراس اقتباساً من الكاتب الانكليزي جيمس ماثيو باري بهذا الشأن "ما عكّر صفو طفولتي، هو إحساسي بأنّ الزمان الذي عليَّ أن أتخلّى فيه عن لعبي كان قد أوشك، وقد كان ذلك يبدو لي أمراً لا يطاق. لذا قرّرتُ أن أواصل اللعب في الخفاء". اللعب الخفي يُعنى به الكتابة.

من هذا المنطلق الرئيس عمدت حبراس، على سبيل المثال، في المقال الأول "كرة القدم في السرد العماني: اللعب في الاشواط الإضافية" إلى بناء المقال بما يحاكي مباراة كرة قدمٍ مكوّنةٍ من شوطين، ووقت استراحةٍ بينهما، والوقت بدل الضائع، والشوطين الاضافيين. 

وتبلغ المحاكاة مصداقيّتها، حين تسمّي حبراس مدخل المقال "قبل صافرة البداية" وفيه تطرح تساؤلات عدّة من قبيل البحث في أوائل النصوص في السرد العماني، التي اتّخذت من كرة القدم موضوعةً لها، وماهي المحفّزات التي دفعت السارد العماني إلى كتابة "نص كرة قدم"، هل تتمثّل في دوافع ذاتيةٍ، كامنةٍ في ذاكرة المؤلف أظهرها إلى الحضور التدويني شغفُ السارد بلعبة كرة القدم، أم أنّها مخيّلة السارد أطلقت العنان للكتابة عن موضوعٍ تخييلي صرف، لكنّه يسبح في فضاء اللعب الكروي الممتع، أم أنّ إيحاء كتابة نصٍّ كروي، جاء بفعل عوامل خارجية، مثل الاهتمام بأحداثٍ كرويةٍ ساخنة، هيّأت للسارد الحافز الجميل لكتابة نصٍ، يخوض في جماليات لعبة كرة القدم، والشغف الجماهيري فيها. 

الدخول في تفصيلات هذه التساؤلات يعني امتلاك مفاتيح قراءة الكتاب، لأنّ الشطر الآخر من هذه التساؤلات يفصح لنا عن منهجية حبراس في الاشتغال على اللعب السردي بنظراته العشر. من هذه التساؤلات؛ هل كان حضور كرة القدم في السرد العماني حضوراً عابراً، كأن يكون خلفيةً للثيمات الرئيسة في النصوص السردية، أم أنه حضورٌ رئيس، ينبني عليه عماد النص السردي، وهنا ينبثق التساؤل عن وجهة نظر النّاص السردي، هل هو مناصرٌ للّعب أم أنّهُ  حاطٌّ من مكانة اللعب في نفوس المسهمين فيه والمتفرجين عليه، كما ينبثق تساؤلٌ آخر عن شخصية اللاعب ذاتها، هل هي شخصيةٌ ناظرةٌ إلى ذاتها والآخر معاً، أم أنها منظورٌ إليها عبر وسيطٍ خارجي، كأن يكون من قبل شخصياتٍ أخرى رئيسةٍ أو ثانويةٍ  في النص. ومن الضروري التساؤل عن بنية النص السردي الكروي، وكما تذكر حبراس" إلى ايّ مدى اعتمدت الكتابة عن كرة القدم أسلوب اللعبة نفسها في السرد: أكانت اللغة المُستخدمة لغةً تتبنّى إيقاع اللعبة وتكتيكاتها داخل المستطيل الأخضر، موظّفةً قاموسها اللغوي من مصطلحات وإيحاءات؟".

اعتمدت حبراس خطط لعب كرة القدم في تناول عدد النصوص التي ستتناولها في كلّ محور من محاور الكتاب، مبيّنةً أنّها ستعتمد خطّة لعبٍ غريبة (3، 2، 5). وقد صنّفت، وفق هذه الخطة، حضور كرة القدم في الادب العماني عامة والسردي خاصة إلى أربعة أشكال، الحضور العابر، الذي لا يتعدّى إشاراتٍ معيّنةٍ لا تؤثّر في الحدث الرئيس للنص، وهناك اشتغال النص بكلّيته بموضوعة كرة القدم، وهناك الشكل الذي سمّته النصوص المزامنة، المُستلهمة لحدثٍ كرويٍّ في بنائها السردي. الشكل الآخر، النصوص التي تكرّست لشخصيّةٍ عمانيةٍ كرويةٍ بعينها، خاصة، وهنا تحدّد حبراس النصوص التي تناولت فقيد الكرة العمانية غلام خميس الذي يُعدُّ مارادونا عمان. 

وتنهي المقال الأول المحاكي، نموذجياً، للعبة كرة القدم بعنونةٍ فرعية "صافرة نهاية المباراة" وفيه تصريحٌ مسكوتٌ عنه للمدرب في نهاية المباراة، وفيه محاكاةٌ لما يقوله المدربون في نهاية كلّ مباراة، بأنّه في المباريات القادمة سيقدّمون أفضل ما لديهم، فإنّ حبراس تأمل أيضاَ بأنّ الزمن القادم قد يحمل نصوصاً أوفر لكتاب عمانيين وكاتبات يتخذون/ يتّخذن من كرة القدم موضوعاً رئيساً لنصوصهم/ لنصوصهن. 

القارئ الدقيق لمقالات الكتاب أو نظراته العشر، كما تسمّيها حبراس، يرصد تنوّع الموضوعات المُتناولة، لكن يجمعها اللّعب الأسلوبي في تناول ثيمات النصوص المنقودة في جميع مقالات الكتاب أو نظراته العشر، كما تسميها حبراس، فتدرس نصّين أدبيين للشاعرين سيف الرحبي وسماء عيسى، فيهما شغف كبير بلعبة كرة القدم، وألحقت بكلٍّ منهما لقب اللاعب رقم 12، لأنّهما انطلقا من كتابة نصّيهما من موقعهما كمشجّعين في مدرّجات الملاعب. 

وتتناول "حضور السيل في السرد العماني" حيث عثرت حبراس على وفرة من النصوص التي تتناول تسريد السيول، ومنها رواية "تغريبة القافر" للعماني زهران القاسمي، التي فازت بجائزة البوكر العربية عام 2023، حيث نشرت حبراس مقالها عن الرواية قبل حدث الفوز، وتصفها بأنّها روايةٌ مائيّةٌ بامتياز.

وتجترح حبراس مفردة "شنصنة" تعبّر فيها عن خصوصيات نصوص الكاتب العماني الراحل عبد العزيز الفارسي التي تكرّس الموضوع الشناصي، نسبةً إلى شناص، وهي إحدى الولايات العمانية، مسقط رأس الكاتب. وتتدارس اللعب على ثيمة الخوف في مجموعة "وقت قصير للهلع" للقاص يحيى سلام المنذري. 

ولم تقتصر حبراس في كتابها على اللّعب الفني في  السرد العماني، بل ذهبت إلى تناول كتاب الكاتبة إيمان مرسال "في أثر عنايات الزيّات" وهي الأخرى كاتبةٌ مصريةٌ، انتحرت، ولها روايةٌ واحدة "الحب والصمت" صدرت عام 1967 بعد موتها. هنا تلعب حبراس على ثيمة انتقال الراحلة الزيات من الهامش إلى المتن، حيث عاد اسمها إلى التداول الأدبي، مُمثلّاً بكتاب مرسال عنها، ومن فضاء اللعب السردي المصري تنتقل حبراس إلى السرد المغربي، عبر تناول قصّةٍ المغربي أحمد بوزفور "رجلٌ عارٍ يعانق الإسفلت" عبر تحوّلات القصة من نواةٍ صغيرةٍ الى نصٍّ تكتنفه تشكيلاتٌ من التلقي الافتراضي والواقعي، عبر ذوبان الحدود الفاصلة بين الواقعي والخيالي. السمة الغالبة، وليست الكلّية، على النصوص السردية التي تناولت حبراس أساليب اللعب الفني فيها، إنّها قصصٌ قصيرة، وذلك لكي تسهل الإحاطة بها في كتابٍ لم يتجاوز عدد صفحاته 134 من الحجم المتوسط.