نصير الشيخ
بعد إقرارهِ في أطروحاتهِ النقديَّة وعبر معاينته للعمل الفني على أنّه (واقعة ماديَّة) تشي بخطابها الجمالي، فهو يسعى لتأكيد هذه الأطروحات معمقاً فهمه لكشوفات أبعد تخص اللوحة والتخطيط والعمل الفني بمضامينه وإنشائهِ وخطابهِ.
هذا ما قدمه لنا الناقد (خالد خضير الصالحي) في كتابه (تجارب في التشكيل البَصْري) والصادر عن ديوان محافظة البصرة 2023.
تشكل هذا الكتاب من عدد من الدراسات في حقل الفن / رسم ــ نحت ـ تخطيطات لتجارب بصْريَّة حققت حضورها وما زالت في المشهد التشكيلي، محاولا فيها المؤلف الكشف عن مسارات التجريب في أعمالهم ومحاولة الإمساكِ بخطاباتهم الجمالية وهم يتوجهون الى متلقٍ أنموذجي وذائقة ذات حساسيةٍ خاصة.
هاشم حنون هو محطة المعاينة الأولى من هذا الكتاب، منطلقاً من تخطيطات الفنان والتي رافقها المؤلف منذ ما يقارب العقدين من السنوات، ذلك أن هاشم حنون وهو يضع فراغاته على اللوحة ينتظر منا كيف نملأ بياض هذه الفراغات، لكن سرعان ما، بعد تحولات التجربة، يعيد الفنان المعادلة فيرسم تخطيطاته بروح اللوحة الملونة (painting)، ويكون الخط (drawing) هو ذلك العنصر المضاف.
تبرز لنا تخطيطات هاشم حنون، التي هي قيد المعاينة والتوصيف والتحليل من لدنِ الناقد الصالحي، تبرزُ نتائج مهمة تؤكد (تناص هذه التخطيطات مع العديد من المرجعيات خارج /داخل الرسم، وصولاً لقدرتهِ الاختزالية عبر تخطيطاتهِ التي أنتجها خلال الثورة العراقية خلال عام 2019، حيث الحشود تتحول هنا الى أجساد مقطعة ومحترقة لشباب خرجوا يبحثون عن وطن، لا يوطئ لهم قدم فيه، فمنحهم هاشم حنون وطناً في تخطيطاته).
فيما كانت (الرواية المدونة لمنحوتات جنان محمد) هي محطة المعاينة الثانية في هذا الكتاب، حيث قرأ المؤلف الناقد التعالقات المادية ممثلة بـ "الطين" مادة التكوين الأولى والتي شكلت مسار عمل النحاتة ومادة تنفيذها من عام 2017 ـــ 2020، حيث تحولات الطين، وتشكلاتهِ المادية (طين منحوت ثم مفخور ثم الملون بتقنيات الرسم ثم المزجج). كل هذه الخامات تذهب لتعبيرية عالية في اشتغالات الفنانة جنان محمد ومركزها أو بؤرتها "المرأة" بدليل اسم المعرض (هُنّ).. حيث هذه الاعمال المعروضة وعبر جوهرها المادي الرسم/ النحت/ الخزف.. إنما تمثل انثيالات المرأة وعوالمها، وجوهاً وأحزانا شخصية، وحكايات اجتماعية ووحدة وشجناً عميقاً. كلها جاءت بهدفِ إحداث مزاوجةٍ جينيّةٍ (النحت بالطين والرسم عليه بالأكاسيد لأجل تحويل المنحوتة الطينيّة الى خزفٍ باعتباره ناتجاً نهائياً).
سعى الناقد خالد الصالحي الى فتح مساراتٍ عدة في كشوفاتهِ في حقل التشكيل، حد دراسة العمل الفني ومن ثم إضاءة التجربة لدى الفنانين برمتها.
فكانت محطة المعاينة الثالثة (تخطيطات هاشم تايه.. الاندماج الاستعاري ــ ثنائية التحليل والتركيب). حيث التأمل في مخططات هاشم تايه المعتمدة على (التنافذ الاستعاري) من حيث البساطة والقوة، والورقة هي مساحة البوح والتشكيل على حد سواء. تحضر في تخطيطات تايه، المواد الأولية في افتتانها الرسموي، وحسب تجربته بدءاً من الألوان الزيتية وصولاً الى الألوان النباتية "العطارية".. كل هذا في سبيل التوصل الى قيم فنية بمضامين إنسانية، وبما تتركه لنا من ملاحظات قيميةً، من هنا يتمتع أبطال هاشم تايه وهن أناث دائماً بتصويرها (شخصياتٍ مؤسلبة على نحو تعبيري تتوفر على سطوة وهيمنة وقدرة انشطارية تنحو منحى الاختزال الخطي في تكويناتها). وذلك ما نلاحظه بما تصنعه الخطوط الحقيقة المحفورة على بياض الورقة والتي يصنعها المداد الأسود الفاحم.
محطة المعاينة الرابعة كانت رصد تجربة الفنان طاهر حبيب، حيث اللوحة وطبقاتها الإركيولوجية والممتدة عبر مسيرة الفنان في المشهد التشكيلي البَصري، مسيرة وحضوراً ومحاولات ابتكار، ذلك أن الفنان (يعامل اللوحة باعتبارها نصاً. أو على الأقل حقل تكوين تشكيلي أو حقلاً مرجعياً للاستعارة بواقعها البصري.
ولأن مساحة الفن تتسع للرؤى وتتمدد بتطور الأفكار وتجدد الأشكال، تبقى للفنان مهمة البحث عن قدرات أوسع في التجريب والتنفيذ عبر ما تمثله جملة مفاهيم وفلسفات، وهذه ما تجسدت وحسب كشوفات المؤلف الصالحي في أعمال الفنان ظاهر حبيب والتي كشف عنها معرضه "الظل المضيء" بدلالة امتلاكه (زمام تقنية عالية تتيح لهُ أن يخط قواعده وقوانينه الخاصة التي تتيح له استخدام أية مادة يمكن له ان يخضعها لتجاربه بعد ان تفعل فعل القادح للفكرة الدالة).
كتاب (تجارب في التشكيل البَصْري) رؤية نقدية في أعمال فنانين بَصْرِيين، مثلت تجاربهم نقطة جذب للمؤلف الناقد، لما لهم من بصمة وتميز في الأفق الحداثي للفن. واستطاع الناقد خالد خضير الصالحي من التقاط ثيمات وأساليب لديهم منطلقا من ثيمته الخاصة (الواقعة الشيئية) وصولاً لرؤى الفنانين المختارين هنا، كل هذا في سياحة ماتعةٍ وغور نقدي وبلغة شفيفةٍ في الكشف والتحليل والمنطوق الجمالي.