د. جواد الزيدي
لم تك علاقة قاسم حمزة بالطين عابرة يمر من خلالها إلى غواية السحر الملوّن، بل هي علاقة ترتبط بجذر الأرض وحكاياتها عبر آلاف السنين، فهو سليل من سكنوا أرض الرافدين (العبيد وحلف وحسونة وجرمو) وصولاً إلى سامراء وانتاجهم الجرار والفخار الملوّن، ليثب من تلك العلاقات الأولى المؤطرة بالصنعة والفن إلى حداثته المعلنة مع اختلاف البنى المتحولة في كليهما، كونه يمكث قريبا من تمثلات هذا الفن في السهل الرسوبي العراقي، وتوصلات جمالية على مدى خمسة الاف سنة وأكثر، فضلاً عن مغايرة فن الخزف الأخرى في انظمته وجوهر تشكله التي تنضوي تحت خيمته عناصر الوجود الأربعة (التراب والماء والهواء والنار)، تلك التي يتشكل منها اللوح الخزفي.
اتسمت تجربة حمزة بالأداءات الوظيفية والجمالية اقتراناً بظروف موضوعية حاولت أن تفرض سلطتها على ذاته المشغولة بهذا الحقل الفني مستثمرا كل الممكنات التقنية والرمزية من أجل اعلاء شأن القطعة الخزفية عندما ينزع إلى الجمالي المعبر عن الواقعة الخارجية، أو بعدها الدلالي الذي يحتفظ بالمعنى المضمر داخل العلامة التي يحتويها الصحن المزجج، أو العمل الفني وصولا للجدارية التي ستحتفظ بكل هذا من أجل علاقة تواصلية مع المتلقي وإيجاد مثابات جمالية يجترحها الفنان كجزء من نتاج الذات العارفة والمخلصة لانساقها ومنابع وجودها وتصير حقيقته.
إن المنحى الوظيفي احياناً لم يبعده عن مشروعه الجمالي بالاتجاه الآخر من خلال التعالق والتشاكل مع بنية الطين، بوصفها بنية حضارية تقترن بجذر الحضارة العراقية في ضوء فاعلية التجريب على الشكل واللون، مما يمكنه من تطوير خطابه نحو مسارات ابداعية خالصة تتسم بالتفوق، والتفرد ضمن الجنس الفني واستنباط مضامين لها حضورها داخل الشكل الخزفي ومغادرة الأنساق المألوفة، عندما انشغل طويلا في استبدال ادواته وجهازه التقني لضمان استمرار الانتاج وتجنب التكرار في صيغ الجمال، وبهذا يصبح الجديد حكايا عراقية او انسانية تغزلها الليالي وتخيطها أشعة الشمس وضياء الصباحات المبللة بالندى لتكتمل معادلة الخلق في ما انجزته مخيلة قاسم حمزة وسلطتها المؤثرة والمبدعة التي انتجت المختلف في الصياغة والمؤتلف في النهج والنسق، بدءاً من تراتبية العلاقة مع آليات التلقي التي تنتمي إلى وظائفية الخزف وجماليته الواقعية، وصولاً إلى الرمزي والدلالي من خلال توظيف الحروف والكتابات العربية والرموز التي تحفر حضورها طويلاً في الذاكرة الجمعية في ضوء وجودها داخل شجرة الميثولوجيا والحكايا الشعبية، فضلاً عن تنوعها بين الصحن الخزفي والقطع الفنية والجداريات الكبرى التي توشح جدران المؤسسات الرسمية والأهلية
والبيوتات.
وفي كل هذا بقي أميناً لنهجه ولونه الاسلامي والمحلي المعبر عن متعته الروحية، ومكث طويلاً يتأمل نتائجه التجريبية على اللون التي تتواءم دائماً مع أفق توقعاته التي لا تنكسر بمصادفات خارج حدود المعرفة التفصيلية والمهارية التي امتلكها عبر سنواته التي قضاها في الامساك بالفكرة وتصيد التقنية الجديدة، لكي يصنع فناً له حضوره السرمدي في تاريخ النوع الفني ومشهديته المحلية.
وحين يتخذ حمزة من الصحن (الماعون) قطبا رئيسا تدور حوله الموضوعات التفصيلية والرؤى الجزئية، فأنه يدرك تماما ما ستؤول اليه النتائج اللاحقة، ويكون الماعون حاوياً للجذر التاريخي وفاعليته عبر الزمن من النفعية إلى الجمالية، ومن الأيقنة إلى الترميز ومحمولاته الدلالية التي تعج بالموروثات الدينية والشعبية في وظائفيته التي تنتمي لقاع المجتمع، وتجسيد تلك المقولات (ويمنعون الماعون) بخلق بديل مضموني، واستثمار جوهر النص وتحويله من فضائه اللغوي إلى خصائص المرئي والعياني، أذ يقيم حيزا للحب ومسافة يلتحم بها مع هموم الناس وحاجاتهم ولا يمنع شيئا عن ماعونه الخزف، ويقدم خلاصة مجهوداته التقنية في ذلك لثمثيل العصور المتعاقبة التي تمظهرت في صحونه منذ القدم وحتى تمثلات الحداثة والمعاصرة.. من صحون الخزف إلى صحون الطوارئ (الفلين) التي تحمل أسباب الحياة، فتتشح صحونه بصور أقراص الشمس والصليب المعقوف وخطوط القيرواني، والسنبلي، والخط الكوفي وهو (يصلي الفجر بأفريز الجوامع).
وعند مواصلة الاحصاء للعلامات في (ماعونه) فإن كل منها يمثل مرحلة من مراحل التطور الفكري والجمالي التي جاد بها العقل الإنساني من كتابات الخطوط القديمة والأشكال الهندسية والطائرات الورقية والمثلثات التي تشير إلى مرموزات عبر التاريخ، أو موجودات شعبية تشبه سلة الخوص.
ولم يكتف بالرمزي في خطابه الخزفي، فيسعى إلى المباشرة في الكثير منه، ويعلنه سبيلاً للتعبير، حينما يكتب في باطن الصحن (أنت الحب) بحروف النسخ موشحة بزخارف، ليكون عندها حاملا لمدونة الذكريات، أو نماذج من الطغراء التي تحمل أسماء العشاق المنحوتة على المخلفات وجذوع الأشجار الميتة، لتصبح مشاهد مصورة تحاكي وتماثل مشاهد الأختام الاسطوانية والكتابات المسمارية، وتتسع قراءته لتشمل الفنون والأجناس الأخرى، التي تتعالق مع فنه، حيث النقوش الصينية وباليت الرسم حين يتحول من مادته الخشبية، والتسامي إلى الخزف حاملا ألوانه على سطحه المضيء، أو مؤثرات الخارج الموضوعي وهو يشطر ماعونه إلى جزأين وصولا إلى تراتبية عدد منها على هيئة نافورة ماء يبدأ فيها من السفلي إلى العلوي، وكأنه يجيب عن أسئلة وقناعات يتردد صوتها داخل ذواتنا جميعا.
وفي كل هذا يُعلن قاسم حمزة حداثته الذاتية الناتجة من بنية خطابه المعتمد نفسه.
ففي اللحظة التي كان يتقصد الصحون الدائرية التي تجتمع فيها مكوناته وعناصره وموجوداته المحببة التي يحاول الانطلاق من خلالها، بوصفها تحمل يقينه الفكري، فإنه حاول هذه المرة جعلها بشكل نفاذ وهجران فكرة الصلادة والانغلاق الشكلي في البنية القديمة، وخلق منافذ جديدة للتأويل قائمة على تعدد الدوائر مختلفة الحجوم، مع بعض المعالجات التقنية المرتبطة بطبيعة التحولات الأُسلوبية، ليقدم رؤية مضافة إلى مجموع ما قدمه من أعمال متحركة بعيداً عن النظم الجدارية التي أنجزها في مراحل مشواره الفني.
هذا الخزاف الذي لم يخلع عدته أو يهجر أدواته، إلا عندما يهجع إلى النوم قد أصاب العديد من مواطن الجمال من حيث (الكم والكيف) وأصبح انموذجا للمواظبة والاجتهاد من أجل الارتقاء بخطابه الخزفي، حتى وأن أجرى اختبارات لطاقته الكامنة في الأجناس التشكيلية الأخرى (النحت والخط العربي والرسم) وأضحى الخزف منطقه السائد والتفكير الدائم باعتماد جهاز استكشافي يديم علاقته بهذا الهوس الابداعي الذي يتطور دائما بفعل البحث العياني والمراقبة لكل ما يحدث في هذا المحور، بما يغني تجربته الشخصية بوصفها واحدة من علامات مؤثرة في الخزف العراقي.