المتهكّم الذكي عوالم ماريو بارغاس يوسا السحريَّة
باقر صاحب
والواقعية السحرية، بحسب الويكيبيديا، تُعرّف بأنّها تقنيةٌ أدبيةٌ ظهرت في كثيرٍ من الأعمال الروائية والقصصية في الأدب الألماني منذ مطلع خمسينات القرن الماضي، وأدب أميركا اللاتينية بعد ذلك، ثمّ وجدت طريقها إلى بعض الأعمال في آداب اللغات الأخرى. ويستثمر هذا التيار الأدبي مزج تنويعاتٍ فنتازية مع قوانين الواقع، بشكلٍ يذهل القارئ ويربك حوّاسه فلا يستطيع التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، هذه التنويعات ماثلةٌ في الخرافات والحكايات الشعبية والأساطير وعالم الأحلام والكوابيس.
حظي بارغاس يوسا بشهرةٍ عالميةٍ في ستينات القرن الماضي منذ صدور أولى رواياته؛ المدينة والكلاب، والبيت الأخضر، وحديث في الكاتدرائية. وتناولت رواياته مضامين متنوعة ، مثل ألغاز جرائم وموضوعاتٍ تاريخيةٍ وأحداثًا سياسية، وتحوّل عديد أعماله إلى أفلام، مثل: بانتاليون والزائرات، و العمّة جوليا وكاتب النصوص . حصل على عديد الجوائز، اهمها جائزة ثيرفانتس (1994)، جائزة نوبل في الآداب عام (2010).
من أعماله المترجمة إلى العربية؛ قصة مايتا 2013، وحرب نهاية العالم 2021، ودفاتر دون ريغوبرتو 1997 ، وامتداح الخالة 1999، ومن قتل بالومينو موليرو2001 ، وحفلة التيس2018، والفردوس على الناصية الأخرى 2004 ، ورسائل إلى روائي شاب 1997 ، وشيطنات الطفلة الخبيثة، 2006 ، وليتوما في جبال الأنديز 1993 ، والجراء (رواية قصيرة 2007، والرؤساء (مجموعة قصصية) 2007، وحلم السلتي 2012، والبيت الأخضر 2015، والبطل المتكتم 2016 ، وخمس زوايا 2021، وزمن عصيب 2021 .
يستثمر بارغاس يوسا السخرية السوداء في عديد أعماله الروائية، ولذا كان من الالقاب التي أطلقت عليه (المتهكّم الذكي) مثلاً، رواية “العمة جوليا وكاتب السيناريو”، المُترجمة إلى العربية عام 2023 ، لم يُتَح لنا الحصول على نسخةٍ منها، ولكن كُتب عنها بأنّها روايةٌ غارقةٌ في الفكاهة وحبّ المراهقين، وأنّها روايةٌ تتحدّث عن سحر المدينة المفقودة، وهي “ نوعٌ من السيرة الذاتية لـ بارغاس يوسا”. تغمر قارئها بالسرور والبهجة، وتتناول حنين بارغاس يوسا إلى ليما – عاصمة البيرو- في خمسينات القرن الماضي. وهي رواية ممتعة “تمتلئ بالأشخاص الغريبي الأطوار وخطوط الحبكة التي تمزج الخيال بالحقيقة”. ويمكن أن نتناول هنا بشكلٍ موسّع، روايتيه المهمتين (بانتاليون والزائرات)، و(قصة مايتا)، لما فيهما كما نرى، من رؤى تراجيكوميدية كتبهما بارغاس يوسا بشكل ذكيٍ ومُحترف.
بانتاليون والزائرات
صدرت هذه الرواية بطبعات عديدة، آخرها عن دار الجمل 2022، ترجمة صالح علماني. وتدور أحداثها في البيرو، موطن الروائي، ويمكن إيجاز حبكتها بما يلي: بعد تلقّي المؤسسة العسكرية في البيرو شكاوى كثيرةً عن اعتداءات الجنود في مناطق الأمازون على نساء الفلاحين وبناتهم، ابتكرت هذه المؤسسة فكرة تأسيس خدمة زائرات” نساء غانيات” يتكفّلن بتوفير المتعة الجنسية للجنود. وللمفارقة، الطابعة لأعمال بارغاس يوسا، فإنّها، أي المؤسسة العسكرية، تكلّف أشدّ ضباطها التزاماً في حياته العسكرية والاجتماعية النقيب المُرقّى حديثاً بانتاليون بانتوخا بتأسيس خدمة دعارةٍ للقوات المسلّحة، فيحقّق نجاحاً باهراً فيها، انعكس على تسميتها شعبياً )بانتالاند( ، لكنَّ هذا النجاح لبطل الرواية عسكرياً والعاطفة المشبوبة تجاه أجمل نساء خدمة الزائرات، وتدعى البرازيلية أولغا، الامرأة الوحيدة، من بين اللاتي يقدّمن تلك الخدمة، التي تجرّأت على جسّ نبض عواطف بانتوخا، لما امتاز به من صرامةٍ في تعامله مع الزائرات. هذا النجاح، لابدّ من دفع ثمنه الباهظ لجهة مهنته العسكرية وحياته العائلية، فتهجره زوجته بوتشيتا مع ابنتهما الحديثة الولادة، بعد انكشاف أمره مع العشيقة البرازيلية، ومن ثمّ انكسار بطل الرواية بانتوخا إلى وضعٍ لا يُحسد عليه، نتيجة الحملة الشرسة التي قادها إعلامي إذاعي مُمثّلاً بشخصية سينتشي، لفضح هذه الخدمة، ومن ثمّ السكوت من جانبه عنها مقابل رشىً. لكنّ السكوت والمديح جاءا بعد افتضاح أمر بانتوخا. ومن التطوّرات التي رافقت تلك الخدمة وأصابتها في مقتل، خطف مدنيين من قرى البيرو النائية زائرات، واغتصابهنّ بوحشية، كان من نتائجها التراجيدية مقتل البرازيلية فنعاها بانتوخا، وظهر في المقبر مرتدياً الزي العسكري، متجاهلاً أو متناسياً تحذيرات القادة الكبار بارتداء الزي المدني لإخفاء علاقة الجيش بالخدمة، فأدّى ذلك إلى انهيارها.
وترى الناقدة والأكاديمية السورية الأردنية شهلا العجيلي، في معرض قراءتها للرواية بأنّها تثبت بأنّ ما يصنع الروايات الجيّدة، ليس الأفكار الخطيرة، ولا الأحداث العظيمة، بل تلك التي تجعل أيّة حادثةٍ بسيطةٍ حدثاً مهماً في واقع النصّ. فنّ الرواية، بحسب العجيلي، بحاجة إلى حكاياتٍ، لا إلى أفكار فحسب، وفي الوقت ذاته “هذا لا يعني أنّ الرواية بعيدة عن التاريخي والدينيّ والسياسيّ والإديولوجيّ. إنّها تقاربهم، وتستعملهم من غير أن يستعملوها”.
أدرج المتهكم الذكي بارغاس يوسا، على طول صفحات الرواية، تقارير الجيش الرسميّة المؤرخنة، مع الالتزام بتفاصيل التقارير جميعها: “الطريقة، الخطاب، المفردات، الاعتذارات، الحواشي، الخواتيم، كما استعمل الردود على التقارير” كما ثبّتت العجيلي في قراءتها للرواية. كما استثمر بارغاس يوسا سردنة الوثائق، عندما ضمن الرواية سيناريو نصياً عن تدخّلات الإعلامي الإذاعي سينتشي، سعياً منه في تأليب الرأي العام ضدّ بانتوخا، من أجل الحصول على رشىً منه، وحين اضطرّ بانتوخا إلى التسليم بالأمر وإرسال مبلغٍ شهريٍّ، انقلبت البوصلة باتّجاه كيل المديح لبانتوخا وفريق الزائرات، وهنا سخريةٌ واضحةٌ من الإعلام المدفوع الثمن، الذي ظاهره الدفاع عن المبادئ وباطنه الابتزاز والرشى.
استثمر بارغاس يوسا الريبورتاجات الصحفية، لنقل الوقائع الكاملة لمقتل البرازيلية أولغا، كما نشرت صحيفة (أروينتي) في عددٍ خاصٍّ لها وقائع تشييع جثمان القتيلة، ومراسم دفنها بالمقبرة العامة، وتكريمها بوصفها” شهيدة الخدمة”، وضمّ العدد الخاص كلمة النعي التي ألقاها بانتوخا، والتأثّر المفرط الذي كان بادياً عليه إلى حدّ البكاء. وبما أنّه عددٌ خاص، فقد تشرت الصحيفة وقائع جريمة ناوتا، المنطقة التي وقعت فيها أحداث الجريمة. ونشر تاريخ العدد الصادر للصحيفة يوم 5 كانون الثاني 1959 ، يوحي للقارئ بأنّها أحداثٌ حقيقية، وهنا يتّضح أثر مصداقية الواقعية السحرية على القارئ، من خلال تلك الأرخنة، بحيث يلتبس على القارئ هل ما يقرأ؛ واقعٌ أم خيال؟ كما أنّ التشييع المهيب لقتيلةٍ تعتبر اجتماعياً سيئة السمعة، يفصح لنا أنّها روايةٌ تراجيكوميدية، يدهشنا فيها البناء الروائي المُحكم في (بانتاليون والزائرات) حينما تتراصّ هذه الملهاة” تقديم الخدمة الجنسية للجنود” مع السياقات العسكرية الرصينة.
قصة مايتا
رواية “ قصة مايتا” يستثمر فيها بارغاس يوسا التهكّم السوداوي عن التطرّف الثوري في دول العالم الثالث، البيرو، نموذجاً، ومآل فشل هذا التطرف وهزيمة عرّابيه، وانزلاق موطن الروائي إلى أحداث عنفٍ وحربٍ أهليةٍ حدثت في البيرو بين عامي 1982 – 2000.
تقع أحداث الرواية عام 1958، بطلها، مايتا شخصيةٌ حقيقيةٌ (افتراضاً) قادت تمرّداً ثورياً فاشلاً في عام 1958 ، بمعيّة بعض المتطرّفين اليساريين، المنتمين إلى حزب العمال الثوري (التروتسكي)، الساعين إلى قيام دولةٍ اشتراكيةٍ في بلادهم. في الرواية يلتقي مايتا بملازم الشرطة باييخوس، وهو الذي حرّض مايتا على القيام بهذا الحراك الثوري، في إقليم خاوخا عاصمة البلاد الأولى.
الراوي الأول هنا، هو الكاتب ذاته، أي يدخل كشخصيةٍ رئيسةٍ في الرواية، وهذه أحد التقنيات التي يحفل بها أدب بارغاس يوسا، وهي الرواية الصادرة بنسختها الاصلية عام 1986 ، هو يستنطق شخصيات الرواية، ويجمع شهادات عنهم عن التباسات قصة مايتا مع التغيير الثوري الذي يزمع هذا الأخير القيام به، ومن هذه الشخصيات، شخصية خوسيفا أروسيوينيو، خالة مايتا وعرّابته، مثلاً هذا الحوار بين الكاتب واروسيوينيو “ هل جرت هنا الحفلة التي تعرّف فيها مايتا على باييخوس؟ هنا بالذات – تؤكد لي السيدة اريسوينيو ذلك..” الرواية: ص13، التحقيق المفصّل عن مايتا والتحولات في حياته، شاباً وكهلاً، أثار فضول خالته وشكوكها، وهو يثير فضول القارئ أيضاً، هل هذا التقصّي حقيقةٌ أم خيال؟، بدليل صيغة إجابة الروائي، عندما تسأله الخالة..هل سيكتب سيرة حياته، فيجيبها كما ورد في الرواية” لا، ليس حياته – أجبتها وأنا أبحث عن صيغةٍ لا تسبّب لها مزيداً من البلبلة- أريد أن أكتب شيئاً مُستوحىً من حياته. ليس سيرةً وإنّما رواية. قصة حرّة، حول الحقبة، والوسط الذي عاش فيه مايتا والأشياء التي جرت في تلك السنوات”: الرواية ص25 .
وهنا نسأل، هل تقصّيات الروائي حقيقيةٌ أم خيالية، هل التداول العمومي للواقعية السحرية لدى القارئ يجعل كلّ شيء مُبلبلاً، إذ بالإمكان وصفها بأنها تخييلٌ أكثر واقعيةً من الواقع. وهنا لعبة الروائي في إثارة مزيدٍ من البلبلة والتفكير التأملي لدى القارئ فيما يقرأ، حيث يتوقّف ليتساءل هل هذا واقعٌ أم خيال. يرى القارئ أنّ الحوار بين الروائي وإحدى شخصياته مثيرٌ جداً، فهي تسأله لماذا اختار مايتا للكتابة عنه، وترك شخصياتٍ شهيرةٍ في البيرو. تساؤل خالة مايتا أثار بدوره تساؤلات لدى الروائي” ألأنّه في عبثيته وتراجيديته كان السبّاق؟): ص23 . هذه التراجيكوميديا في شخصية مايتا تعكس” صورة شعاعية للتعاسة البيروية”.
أرى في كلّ تعاسات البشر طرفين متناقضين، الملهاة والتراجيديا، ليس هناك شقيٌّ أو تعيسٌ لا يتهكّم عن حياته، وحيوات الناس من حوله، سعداء أو تعساء. الفكاهة السوداء ماثلةٌ في تضاعيف الرواية، من ذلك ما يقوله مايتا عن حديث باييخوس عن الثورة” لقد أمتعه سماع من يتحدّث عن الثورة كمن يتحدّث عن لعبةٍ أو مأثرةٍ رياضية”: ص24 ، وهو توصيفٌ ثريٌّ عن الثورة، واقعي – خيالي.
ما يحدث في ( قصة مايتا) قلبٌ للوقائع، وإبرازها بشكلٍ ساخر، مثلاً، عندما يقول باييخوس بأن البيرو الحقيقية موجودة في سلسلة الجبال، وليس على الشاطئ، إنها موجودة ما بين الهنود ونسور الكندوز وذرى الأنديز ، كذلك ليما العاصمة، ليست الموجودة، الآن، هي الحقيقية، حين يصفها” المدينة المتأجنبة والمملّة واللابيروية”: ص30 .
تنعكس طروحات باييخوس على مايتا، حيث يصف الثاني الأول بأنه سياسي نقي، السياسة لديه” مشاعر وحسب، نزقٌ أخلاقي، تمرّد، مثالية، أحلام، سخاء، صوفية” ص30 .
ولكنّ ما جرى، لاحقاً، من تطرّفٍ ثوري في أحداث خاوخا عام 1958 ، أدى إلى انقلاب المفاهيم، وأصبح اللاواقع هو الواقع، والمثالية السياسية تحوّلت إلى وقائع حزينةٍ تثير المرارة والسخرية معاً. والدليل على ذلك تأملات مايتا بشان الثورة، حيث هي” روتينٌ لا نهائي، وبخلٌ رصين، وإنها ألف تقشّفٍ وتقشف، وألف دناءة ودناءة، وألف وألف...” ص31 .
هناك سخريةٌ من قبل مايتا، تّجاه مثقفي بلاده” أخلاقهم تكاد لا تساوي إلا قيمة تذكرة سفرٍ بالطائرة إلى مؤتمر للشباب، أو للسلام، الخ”: ص32. وعلى وتيرة التحقيق مع خالة مايتا، يجمع الروائي المشارك في الرواية تحقيقات وشهادات، تشكّل البنية الأساسية للرواية، عبر ثلاثة أزمنة؛ زمن الروائي، وزمن الرواة المُستجوبين، وزمن البطل، وبتداخل تلك الأزمنة، تتسع دائرة الرواية، لتصبح كما المتاهة اللاوقعية، وهذا ما يؤكده بارغاس يوسا، بالنص في الرواية “إنني واقعي، أحاول أن أكذّب دائماً في رواياتي وأنا أعرف السبب، إنّه أسلوبي في العمل، وأعتقد أنّها الطريقة الوحيدة لكتابة قصةٍ بالانطلاق من التاريخ”: ص97. وهنا نقول إنّ الكذب، أي الخيال هو الملهاة، والصدق، أي الواقع، هو التراجيديا.
ما يريد أن يقوله بارغاس يوسا هو أنه اخترع بيرو “ قياميّة”، فبوساطة خياله الفانتازي الجامح والمنضبط في الآن ذاته، يقول الروائي” اختلقت بيرو قيامية، تعيث بها الحرب والإرهاب والتدخلات الأجنبية خراباً، ولن يتعرف أحدٌ بالطبع على أيّ شيء وسيعتقد الجميع أنّها محض خيال”: ص 399 . لقد أذاب بارغاس يوسا الحدود بين التاريخ واللاتاريخ، بين الواقع واللاواقع، ليزرع في كل ما قرأنا الشك المثمر، الذي يحفزنا للبحث عن تاريخ أكثر صدقية.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة