«جيل الطيبين» تشابكُ المصطلح وتعدّدُ القراءات
رحيم رزاق الجبوري
ظهر في الأونة الأخيرة مصطلح {جيل الطيبين}، أو {الزمن الجميل} وانتشر بشكل واسع في الأوساط المجتمعية، وتحديدا في مواقع التواصل الاجتماعي، كما أفردت بعض الفضائيات برامج خاصة تحت هذا المسمى.
وشهدت هذه التسمية سجالا مستمرا بين مؤيد ومعارض، وبين ناقم على تلك الفترة، ومتحسر لفقدها؟ ولعل هذه التراشقات والمماحكات، قد أفرزت فريقين اشتبك عليهما المصطلح وراحا يفسرانه حسب ما عاشاه في تلك الفترة سواء كانت سوداوية، أو مخملية. والسؤال المطروح: أي جيل هم الطيبون؟ فالطرح هنا ضبابي وعائم.
ربما يصف البعض أن كل فرد يحن ويشتاق إلى مرحلة طفولته ومراهقته وشبابه في تلك الفترة بعد أن مشى به العمر سريعا.
والآخر يلعن تلك السنين القاسية ليل نهار؛ لأنها قضت على أحلامه وطموحاته وضاعت بين أحضان جبهات القتال وأصوات الرصاص والمدافع وآثار الحصار الذي التهم كل سنينه التي تلاشت وأصبحت ذكرى أليمة لا يطيق سماع مآسيها أو مفردة تحاول تجميل تلك الفترة تحت أي عنوان.
النوستالجيا
إلى ذلك يقول علي عزيز (كاتب ومدوّن)، في حديثه حول هذا المصطلح: "ترتبط هذه الأوصاف (جيل الطيبين والزمن الجميل) بظاهرة الحنين إلى الماضي أو النوستالجيا، حيث يتخيل الإنسان ماضيا مثاليا طيبا وفردوسا مفقودا، ويلجأ لتلك التخيلات غير الواقعية غالبا؛ كوسيلة دفاع أمام الإحباط من الواقع والمزاج السيئ والاكتئاب.
ولا بد وأنكم قد شاهدتم ذات يوم منشورات في التواصل الاجتماعي لصورٍ من العراق الملكي مثلا، مرفقة بعبارة "الزمن الجميل"، مع عشرات التعليقات التي تتحسر على ذلك الفردوس الضائع؟
ولكن في الحقيقة فإنه الواقع مغاير تماما، حيث نسب الأمية تتجاوز الـ80% وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانتشار الأوبئة والفيضانات، فضلا عن الإقطاع والظلم والدكتاتورية!".
أوصافٌ متخيلة
ويضيف، عزيز: "زار عالم الحيوان والكاتب الأسكتلندي غافين ماكسويل، العراق عام 1956، وهبطت طائرته في بغداد، فكتب انطباعه عن مدينة بغداد في كتابه (قصبة في مهب الريح)، قائلا: "تندس الصرائف وبيوت الطين بين تلك الشوارع والعمارات الحديثة.
وفيما عدا المناطق التي تزدحم فيها حركة المرور يلاحظ المرء الأوساخ والقاذورات تملأ الأرض.
وتدوي منبهات سيارات الكاديلاك لتزيح عن طريقهـا أفرادا من القرويين بأسمالهم البالية ودوابهم العجفاء التي يمتطونها".
ويصف الروائي الروسي دوستويفسكي ظاهرة الحنين إلى الماضي على لسان إحدى شخصيات روايته (الليالي البيضاء): "إن جدتي دائما تتحدث عن العهد الخالي الجميل، فتقول فيما تقول إنها كانت يومئذ فتيَّة، وإن الشمس كانت يومئذ شابة وأكثر دفئا، وكانت القشدة لا تفسد بسرعة كما تفسد في هذا الزمان، كان كل شيء حسنا في ذلك العهد الجميل".
ويؤكد عزيز في ختام حديثه، بأن أوصاف "الزمن الجميل، وجيل الطيبين" هي أوصاف متخيلة غير موجودة، فلم يسبق وأن زاد عدد "الطيبين" عن المعدل الطبيعي، ولم يسبق وأن عشنا عصرا مثاليا".
واقعٌ اجتماعي
فيما يرى علي الدليمي (كاتب وفنان)، أن: "جيل الطيبين، أو "الزمن الجميل"؛ هو واقع حال اجتماعي وإنساني وأخلاقي أولا وأخيرا، وليس "الواقع السياسي" الفاسد، الذي عاشه العراق ومر به منذ بداية نشأته حتى العام 2003 المشؤوم.
حيث بداية الاحتلال البغيض، الذي دمر البلاد والعباد.
وللأسف الشديد قد نجح في تفكيك النفوس الضعيفة، وبدأ يلعب على الأوتار الحساسة، بزراعة الفتنة الطائفية السخيفة، والعشائرية، والمناطقية، والقومية.
وهذه السلبيات العديدة والعميقة، قد ساعدت في تفكيك البلاد ابتداء من الأسر العائلية، حتى دخلت في جميع ميادين حياتنا اليومية؛ مما أدى إلى التأثير على الواقع الاجتماعي الشعبي العراقي برمته، وبالتالي استفحلت الثأرات والحرب الأهلية التي أحرقت الأخضر واليابس، بعدما كانت جميع الأسر العراقية في تواصل عفوي وفطري جماعي، يمارسون طقوسهم الدينية، والاجتماعية، والفلكلورية، وكل حسب معتقداته ورؤيته.
وكلها كان متفقا عليها من شمال الوطن حتى جنوبه".
حنينٌ واشتياق
ويضيف: "هذه الحالات الاجتماعية وذكرياتها الجميلة بدأت تذهب وتختفي مع أهلها، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من هاجر، ومنهم من ترك هذه التقاليد، فضلا عن ظهور جيل لا يضع الموازين والاعتبارات الأخلاقية لكل هذه الممارسات والذكريات العراقية الأصيلة.
فبقيت ذكريات نتحسر عليها، حيث صور الجيران الفطرية والألعاب الطفولية البريئة.
فحتى البيوتات الشعبية قد تغيرت؟
وما تبقى فقط تلك الصور تذكرنا بالحنين العميق إلى (زمن وجيل الطيبين) العريق الذي ذهب ولن يعود إلى الأبد".
قدسية
ويؤكد المجتبى الوائلي (إعلامي ومترجم): "أن مجتمعنا اعتاد مؤخرا على إضفاء هالة من القدسية حول كل شيء وأي شيء، حتى بلغت القيود على النقد والتوظيف الفني والاستعارة درجة طالت طيفا عريضا من الأشياء، ومنها مصطلح "جيل الطيبين"، الذي لا نعرف أي جيل يخص تحديدا، ولا مواصفات هذا الجيل بالضبط.
هل كان المقصود من "طيبة" هذا الجيل طيبته حقا؟
أم سذاجته، أم إشارة لفترة زمنية ما، ربما تلك التي سبقت عصر الإنترنت؟
حيث النظرة النمطية لجيل ما قبل الإنترنت بأنه (فطير) و(على نيته) ولم يتلوث بالأفكار الجديدة، وإلى آخره من الأوصاف الأفلاطونية.
لكن جدل هذا الجيل يمكن تناوله من محورين حسب رأيي، الأول: سوء الظن الكبير الذي يمتاز به جمهور اليوم، حتى تراه يسارع لمهاجمة كل من ينتقد حالة أو حقبة أو غيرهما، وهكذا كان الحال عند الدفاع عن "جيل الطيبين".
أما المحور الثاني: فلم يقدم إضافة فارقة لمستقبل العراق بحيث يستحق التقديس.
فـ"جيل الطيبين" إذا ما حصرناه في الفترة بين الخمسينيات والتسعينيات، لم يكن طيبا أو ثوريا أو عبقريا، ولم يتقدم العراق معه خطوة إلى الأمام، بل عاد خطوات إلى الخلف، وإن كان السبب خارجا عن إرادته".
لكل جيل عالمه أبوابه
أما أحلام طه (كاتبة وقاصة) فتقول: "حينما تنظر إلى مراحل حياتي السابقة وتستمع إلى الحكايات والأحداث التي كانت تدور حولي فيما مضى أو التي تحيط بي الآن، وأنت لم تعش ما عشته؛ لا تتكلم عن الأجيال. فلكل جيل أبوابه الخاصة وعالمه المختلف عن الذي سبقه أو الذي سيأتي بعده.
فهو لم يختر أيا منهما ولا يعرف مصيره أين سينتهي؛ لأن عند الله كل شيء مدون ومكتوب. وكل ما اُختبِرَ به كان جميلا لهم".
عدم إدراك
وتضيف: "عند جلوسي في مكان عملي، تمر من أمامي جميع الأعمار والأجيال، وكل واحد منهم يرى بأن عالمه هو الأجمل والأفضل.
وأحيانا أبتسم وأحيانا أبكي على أبناء جيلي، فهناك وجع لن يمحى بابتسامة.
بالرغم من أن هناك من ينعت "جيل الطيبين" بالجيل الأكثر غباء؛ لأنهم لم يدركوا أن هذا الجيل هو الوحيد الذي عاش مراحل حياته بشكل طبيعي، طفولة ومراهقة وشبابا، وصولا إلى المشيب. ولم يكن هناك ما يمنع استمتاعه بلحظات الطفولة أو حب المراهقة مثلا.
فنحن أناس نحترم القانون ونطبقه حتى على أنفسنا ولسنا تابعين كقطيع أغنام، لكننا نظاميون جدا وفي كل شيء. ولدينا قرار ونعيش على طريقتنا، ولا نميل إلى الأكبر منا، ولا نستصغر الذين هم أقل منا أو نتصنع السعادة والحياة كما يحدث الآن على السوشيال ميديا. فطفولتنا حقيقة عشناها بكل تفاصيلها، وحياتنا ليست افتراضية بل واقعا ملموسا بأفراحه ومآسيه وأوجاعه. ولا يمكن الحكم على الغلاف من الخارج، ربما يبهرك بريقه، ولكن ما في داخله باهت وحزين".
التعميمُ مرفوض
الشاعر والإعلامي عقيل العلاق، يؤكد عدم وجود جيل طيب وآخر غير طيب، مشيرا إلى أن الطيبة صفة إنسانية موجودة منذ بدء الخليقة، وتصاحبها صفة ذميمة الخبث.
ويضيف العلاق، بالقول: "ولذلك وردت في القرآن الكريم: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، [سورة النور 26].
فالطيبة موجودة في كل الأجيال وكذلك الخبث. والصفة الحميدة تعيش معها صفة ذميمة. وأحيانا يخرج الخبيث من الطيب، ويخرج الطيب من الخبيث.
إذن "جيل الطيبين" مصطلح خاطئ؛ لأنه لا يمكن أن نعمم الطيبة على كل جيل. فمثلما هناك طيبة عند البعض من هذا الجيل موجود أيضا الخبيث والسيئ فيهم. فالتعميم لا يجوز في الصفات الإنسانية. ولا يمكننا أن نجزم بطيبة جماعية، كما لا يمكننا الجزم بخبث جماعي.
ربما قيل "جيل الطيبين" لبساطة الحياة في زمن ما، أو لثقافة ومعرفة المجتمع في حينها، أو لجودة البشر في ذلك الزمان، وانحسارهم في الوقت الحالي.
وربما لقيمة الشخوص ووجود سلوكيات أفضل من السلوكيات الحالية؟
لكن نعود ونقول أن تعميم الخير والشر على أي جيل، غير صحيح بالمطلق".
صورةٌ رومانسيَّةٌ وهميَّة
بدوره يقول عاصف الخزرجي (كاتب ومترجم): "أن مفهوم "جيل الطيبين" ليس محددا بجيل معين؛ وإنما غالبا عند الأجيال الكبيرة عمرا؛ هي الصورة الرومانسية الوهمية الشعبية للزمن السالف الجميل، ونوع من النوستالجيا لما هو قديم.
فالذاكرة بروباغاندا يصنعها دماغنا، نحنُّ لأيام الطفولة؛ ليس لأن العالم كان أفضل، لكن حياتنا كأطفال كانت أجمل، كان كل شيء جديد ومبهر، ولم يكن علينا مسؤوليات مقلقة، لذلك كل تفصيلات العالم القديم تذكرنا بعواطف استكشاف العالم للمرة الأولى. وعلى مستوى اللغة الدارجة هناك مفارقة أن الناس بعض الأحيان تستعمل لفظ (الطيبة) كوصف إيجابي للغباوة وعدم النضج والبساطة في التفكير؟
فيقول بعض الناس عن فلان أنه قد خُدِعَ وتعرض للنصب والاحتيال لأنه إنسان طيب؟
فكأنَّ الطيب هو شخص لم يدرك بعد أن هناك شرا في العالم، وينبغي أن يعرفه ويستعد له! ونقول عن جيل الأقدمين الذين نتصور أنهم عاشوا حياة أبسط وكانوا أقل معرفة بالحيل والتلاعب والخديعة أنهم "جيل الطيبين"؟. ويشكو كثير منا أن طيبة قلوبهم كانت سببا في مشاكلهم فتجد رحمة رياض، تغني "طيبة گلبي أذّتني، تعبتچ يا روحي ويّاي"، وتشكو من تعرضها للخديعة بسبب طيبة قلبها، ومطرب آخر، يقول "طيبة گلبي مشكلتي" ليبرر وقوعه في شباك الخديعة؟ فختام القول: إن الطيبة هنا هي باختصار السذاجة حينما نريد أن نصف السذاجة بطريقة إيجابية".