سباق بين الكمال الفنيّ والقدرة العقليَّة المتدهورة

ثقافة 2024/05/05
...

  تقديم وترجمة: نجاح الجبيلي

بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز عام 2014 احتفلت الأوساط الأدبية والثقافية في العالم بهذه المناسبة ورافق ذلك صدور الترجمة الإنكليزية لرواية ماركيز الأخيرة "حتى نلتقي في آب" التي هجرها من أجل كتابة رواية "ذكريات غانياتي الحزينات"، كما أعلنت منصة نتفلكس عن اعداد روايته "مائة عام من العزلة" في مسلسل تلفزيوني.  
قرأتُ الرواية باللغة الانكليزية التي ترجمتها آن ماكلين عن الأسبانية ويسرني أن أترجم المقدمة التي كتبها ابنا ماركيز للرواية:
إن فقدان الذاكرة الذي عانى منه والدنا في سنواته الأخيرة، كما سيسهل على معظم الناس تخيله، كان جدّ قاسٍ علينا جميعاً. ولكن الطريقة التي أضعف بها هذا الفقدان قدرته على الاستمرار في الكتابة بصرامته المعتادة كانت مصدر إحباط ويأس بالنسبة له. لقد أخبرنا ذات مرة بصراحة وبلاغة الكاتب العظيم: "الذاكرة هي مصدري وأداتي في الوقت نفسه. وبدونها أنا لا شيء."
كانت رواية "حتى نلتقي في آب" ثمرة جهد أخير للاستمرار في الإبداع رغم كل الصعاب. وكانت العملية عبارة عن سباق بين كماله الفني وقدراته العقلية المتدهورة. دقق صديقنا كريستوبال بيرا في مذكرة محرره للطبعة الإسبانية النسخ الطويلة و العديدة للنص بالتفصيل، بشكل أفضل بكثير مما نستطيع. في ذلك الوقت، كل ما عرفناه هو الحكم النهائي الذي أطلقه غابو: "هذا الكتاب لا فائدة منه. يجب تمزيقه."
لم نمزق الكتاب، بل وضعناه جانباً، على أمل أن يقرر الزمن ماذا نفعل به. وعندما قرأناه مرة أخرى بعد مرور عشر سنوات تقريباً على وفاته، اكتشفنا أن النص يحتوي على الكثير من الإنجازات الرائعة. وهي بالطبع ليست مهذّبة مثل أعظم كتبه. إنها تحتوي على بعض القطع الصعبة والمتناقضة، ولكن لا شيء يعيق الاستمتاع بأبرز جوانب عمل غابو: قدرته على الاختراع، واستخدامه الشعري للغة، وسرده الآسر للقصص، وفهمه للبشرية، وحبه لتجاربنا ومغامراتنا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحب الذي ربما هو الثيمة الرئيسية لأعماله بأكملها.
وحين حكمنا على الكتاب بأنه أفضل بكثير مما تذكرناه، خطر ببالنا احتمال آخر: أن القدرات المتدهورة التي منعته من إنهاء الكتاب منعته أيضاً من إدراك مدى جودته. وفي عمل من أعمال الخيانة، قررنا أن نضع متعة القراء فوق كل الاعتبارات الأخرى. فإذا ما أصبحوا سعداء، فمن الممكن أن يسامحنا غابو. وفي ذلك نضع ثقتنا.
—رودريغو وغونزالو غارسيا بارشا
كما كتب المحرر في صحيفة الغارديان أنتوني كامينز مراجعة للرواية فيما يلي ترجمة لها:
"هذا الكتاب غير ذي فائدة. يجب تمزيقه". هذا الحُكم ليس صادراً من تقييم موقع الأمازون للكتب أو من موقع غود ريدز"”Goodreads، بل هو حُكم الروائي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل غابرييل غارسيا ماركيز على روايته والتي نُشرت الآن بعد وفاته، بعنوان "حتى نلتقي في آب"، وهي قصة مرحة  اختمرت في السبعينيات من عمره واقتطفت مجلة نيويوركر قسماً منها ونشرته في عام 1999 بعد أن قرأ منها على المنصة في مدريد مع الروائي البرتغالي الراحل جوزيه خوزيه ساراماغو.
المغامرات المثيرة لأم في منتصف العمر، تم تصورها في الأصل على أنها رواية من خمسة فصول، ولكن ماركيز ركنها جانباً حتى يتمكن من إنهاء روايته التي كان يكتبها في الوقت نفسه بعنوان "ذكريات غانياتي الحزينات"، وهي الرواية الأخيرة التي كتبها و نشرها في عام 2005.
منذ عام 2003، كان هناك استئناف للعمل وانقطاعه؛ قبل وفاته في عام 2014، وهو الوقت الذي كان يعاني فيه من تدهور الذاكرة لمدة 10 سنوات، أعاد النظر فيها في سباق بين "توخي الكمال وتلاشي قدراته العقلية"، كما تقول لنا مقدمة ابنيه. إذا كان فقدان الذاكرة قد ترك غارسيا ماركيز غير قادر على إكمال الرواية بما يرضيه، فربما جعلته الحالة أيضاً أن يكون من الصعب عليه الحُكم على مزايا الكتاب، كما يلمّح ابناه؛ إذ وجدا أن الرواية ذات قيمة، فاختارا تجاهل رغبات والدهما وإعطاء الأولوية لـ "متعة القراء" في كلتا الحالتين، كما أعطيا الموافقة أيضاً لـمنصة نتفلكس Netflix  باقتباس ملحمته الواقعية السحرية التاريخية "مائة عام من العزلة-1967"، خلافاً لموقف ماركيز الرافض منذ فترة طويلة لاقتباس الرواية.
تشرح خاتمة كتبها المحرر كرستوبال بيرا كيف أن الهزل الحميم وغير الملحمي الذي أمامنا الآن ــ حكاية سريعة ومرحة عن الحب خارج نطاق الزواج ــ تم نسجه معًا من المسودة الخامسة لغارسيا ماركيز ووثيقة تحافظ على البقايا المتروكة من المحاولات السابقة، مما أدى أن تكون القصة سلسة القراءة.  وهي قصة آنا ماجدالينا باخ، التي تغادر كل شهر آب بلدها الذي لم يذكر اسمه على ساحل المحيط الأطلسي لمدة 24 ساعة في جزيرة الكاريبي التي لم يذكر اسمها أيضاً حيث اختارت والدتها أن تُدفن. تستقل العبّارة لوضع الزهور على قبر والدتها قبل أن تعود إلى زوجها، مما يترك لها متسعاً من الوقت لقضاء ليلة واحدة سنوياً، حيث تفسح المغازلات المتوهجة في حلبة الرقص المجال لمشاجرات داعرة في غرف الفنادق والندم الشديد الذي يتم التظاهر به بخداع كوميدي أثناء حديث المعاشرة في المنزل.
إنّ كل ذلك هو جزء من القوة الغريبة التي تشكل وقود رواية القصص لدى غارسيا ماركيز. مدام بوفاري ليست كذلك: خيانة آنا ماجدالينا ليست عقدة نفسية تتعلق بالشهوات غير المشبعة بقدر ما هي طريقة لتوصيل الكتاب بالتيار الرئيس. حين أخبرنا المؤلف بأنها وزوجها، قائد الأوركسترا، يمارسان "الحب المتهور... مثل المراهقين" في "الموتيلات المخصصة، والتي تكون في بعض الأحيان الأكثر رقياً ولكن في كثير من الأحيان الأكثر فسادًا، حتى أنه في إحدى الليالي تمت سرقة المكان "تحت تهديد السلاح وتُركوا عاريين تماماً"، هذه الجملة نموذجية: ما يقدمه الروائيون الآخرون لحبكة كاملة هو بالنسبة لغارسيا ماركيز مجرد نصف جملة سريعة متوهجة.
وينطبق الشيء نفسه على اللحظة التي تكتشف فيها آنا ماجدالينا أن أحد عشاقها هو مفترس جنسي قاتل، أو المقطع الذي تتوق فيه إلى قتله و قتل حبيبته بعد أن حثت زوجها على الاعتراف بخيانته، "ليس برصاصة رحمة، بل بتقطيعها شيئا فشيئاً إلى شرائح شفافة..".
تأكدوا  أن رواية "حتى آب" ليست من هذا النوع أيضا. ولكن في حين أن الجو العام قد يكون مشمسًا، أو قائظًا، أو حتى مخمورًا، إلا أننا نشعر بلدغة حقيقية عندما نعلم لماذا قررت والدة آنا ماجدالينا - التي توصف بأنها معلمة "لم ترغب أبدًا في أن تصبح أي شيء أكثر من ذلك" - أنها تريد أن تُدفن في الجزيرة.
تعتقد ابنتها أن هذا هو المنظر البانورامي الذي يوفره ارتفاع المقبرة - وهو نوع من الصحبة في العزلة - وفي النهاية لم يكن حدسها بعيدًا عن الواقع. وهي تتعارض مع اعتقاد وكيلة غارسيا ماركيز "المذكورة في الخاتمة" بأن موكلها لم يضع نهاية للرواية؛ إنها متناسقة بشكل مرضٍ، فهي تشهد على التحول السلس لسرد الحكاية
العميق.