د. عبد العظيم السلطاني
في ستينيّات القرن العشرين، مثلا، كنتَ تجدُ توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ولويس عوض، وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، وصلاح عبد الصبور، وزكي نجيب محمود، وغالي شكري، وغيرهم؛ يترددون على الطابق السادس من بناية مركز الأهرام في القاهرة. وكنتَ تجد رئيس تحرير الأهرام الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل يستقبلهم بمودّة جاذبة، حتى صار الطابق السادس مكانا يتيح فرصة لرؤية وجوه الثقافة في مصر، وهم يتحاورون في شؤون الثقافة والأدب والنقد والفكر.
هذا ما أجمع عليه شهود متابعون ومعنيون بالثقافة والفكر، عاشوا تلك الحقبة، وتحدّثوا من خلال حلقات وثائقي تلفزيوني عن سيرة هيكل وأشاروا إلى منجزاته، حين كان رئيسا لتحرير جريدة الأهرام. ومنجزات الرجل كبيرة وكثيرة. فهو أحيا الجريدة، بعد أن أوشكت على الإغلاق. تمكّن من هذا من خلال رؤية مستقبلية وخطوات عملية واقعية منسجمة مع ما أعدّه من برنامج. ثم نجح ثانية، حين تمكّن من توسيعها وترصينها، حتى صارت مركز أبحاث مؤثّر وله نفوذ وصوت مسموع. نعم، هي منجزات تصلح مثالا على إمكانية الإداري في إحداث الفارق والتميّز، حين يكون مثقفا وكبيرا في وعيه وإرادته. والكبار دائما لديهم رؤية بعيدة المدى، ولديهم مشاريع تتجاوز المنافع الفردية والحدود الشخصية الضيّقة.
في السياق نفسه، ثمّة نجاح أجده نوعيّا ويدلّ على إحساس بمسؤولية المثقف تجاه بلاده وتجاه مثقفيها وأدبائها، حين يكون في موقع إداري يمكن من خلاله أن يفعل شيئا على قدر كبير من الأهمية. والمثال هنا ما زال المدير هيكل، حين استقطب كتّاب مصر وصنّاع الثقافة فيها، حتى صاروا يجدون في الأهرام ما يجمعهم.
تحرّك هيكل بوعي، ليحقق أكثر من غرض، فهو أسس لنفسه قوة يمكنه من خلالها أن يكون مظلّة تجد دعم الأدباء والكتّاب والمثقفين واجبا. وتحت هذه المظلّة وفّر فرصا من حرية القول، ووفّر فرصا لنشر أعمالهم وتوصيل صوتهم، ليس إلى القارئ المصري حسب، بل إلى القرّاء في العالم العربي كلّه.
وهذا يتضمن دورا تحريضيا على الكتابة يقوم به هيكل، حين يهيّئ فرصة لهذه الطبقة الثقافية المهمّة والفاعلة في المجتمع. فيجد فيها الكاتب ذاته وقد غُذّيت بجرعة من التحفيز، ومن الإحساس بالانتماء لعالم خاص، فيه احترام وتوقير وسياقات تعامل مختلفة عن تلك السائدة في الدوائر الرسمية التقليدية. وبالنتيجة صنع هيكل مؤسسة ثقافية لها ثقلها وسياق عملها، ولم يعد الأمر مقتصرا على وجوده فيها. فهي حين تصبح مؤسسة سينسجم أداؤها مع إمكاناتها وأهدافها. لماذا سلك هيكل هذا الطريق وجعل الأهرام مركزا مهمّا (مؤسسة) أولا، ثمّ جعلها ثانيا مركز استقطاب لكبار الكتّاب والمثقفين، ولم يكتف بأن يكون مجرد رئيس تحرير مقتصر الهمّ على جذب الكتّاب ليكتبوا في جريدته؟! لماذا زرع في نفوس الكتّاب والمثقفين شعورا بأنّ الأهرام منهم وإليهم، وأنّها منتداهم؟! قد يقول قائل، كان يؤدي خدمة للسلطة الحاكمة حين كان مركزا للأدباء والمفكرين، فهو مُقرّب من الرئيس جمال عبد الناصر، وبينهما مشتركات في مشروع سياسي ثقافي.. وهذا التصوّر قد يكون واقعا وصحيحا، لكنه لا يمثّل الحقيقة كلّها، فبعض ما كان يُنشر بموافقة هيكل لم يكن خدمة للسلطة الحاكمة، وثمّة وقائع تشير إلى هذا. نعم، هيكل لديه مشروع ثقافي عروبي التوجّه، لكن مشروعه في الوقت نفسه كان وطنيا، يخدم مصلحة مصر ويُكمل دورها السياسي، المتنامي آذاك. والشق الآخر في مسعاه أنّه مثقف يحب الثقافة والأدب، ويقدّر دورهما في الحياة، وحبّه للمثقفين والأدباء كان بعض دوافعه، وكانت خدمتهم بعض غاياته. لكن الغاية الكبرى تظلّ الارتقاء بواقع الثقافة في مصر واستكمال حلقات القوة فيها، وهي ما يسميها هيكل "القوة الناعمة" لمصر، التي تدعم دور مصر المركزي وحضورها في السياسية والقيادة. وبعض هذا يتأتى من تفعيل "رأي النخبة الثقافية"، وهو أمر مختلف عن الرأي العام الذي يشمل مجمل طبقات المجتمع. ورأي النخبة الثقافية هذا يُسهم في رفد شخصية ثقافية بأبعاد وطنية، لها مجرى تسير فيه، ولديها هدف تسعى إليه. أجدني أستحضر كلّ هذا وأنا أسير في أروقة دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، أستحضر رمزيتها الثقافية وتاريخها الذي احتضن كبار الأدباء والكتّاب، وأجد في واقعها اليوم مقوّمات استقطاب الأهرام وطابقها السادس في الستينيّات حين كانت مؤسسة للثقافة. فعلامات الفعل الثقافي والرؤية الطموحة التي تدير دار الشؤون الثقافية العامة اليوم يقرّبها من دلالة اسمها. أليست هي دار الشؤون الثقافية العامة؟! نعم، الطموح مغروس في اسمها، ومهمتها لا تقتصر على نشر الكتب وإصدار المجلّات. وأجد بعض شأنها الثقافي أن تُنتج "قوّة ناعمة"، تليق بأهمية العراق ودوره التاريخي، وتستقطب طاقاته الثقافية والأدبية والفكرية. هل هذا إطراء على حاضر دار الشؤون الثقافية؟ أقول: نعم. لكن الأهم أن يُفهم الكلام بأنّه تشجيع لما تحقّق من خطوات، وأمل بخطوات قادمة، أوسع وأكثر طموحا وأهمية. ودعوة لِأن تُسند لها إدارة الشأن الثقافي بشكل حقيقي وتتحمل المسؤولية أمام الدولة. فتصبح هي المسؤولة عن الفعاليات الثقافية والمهرجانات الوطنية، ويُخصص لها التمويل الكافي من ميزانية الدولة. لتصبح عمليا راعي الثقافة العملي في العراق. وتسير على خطى مؤسسية قائمة على برامج ثقافية مخطط لها ومدروسة، ولديها قاعدة بيانات توثيقية، للبرامج الماضية والمستقبلية. ولديها توثيق للأسماء القادرة على الفعل الثقافي الحقيقي، فتستعين بهم بحسب التخصّص والقدرة على العطاء. وبذلك توفّر فرصة للبناء الثقافي التراكمي، وتؤسس لصناعة ثقافية، وتخرجنا من عشوائية الاعتماد على الذاكرة الفردية لهذا المسؤول أو ذاك، في هذا المنتدى أو ذاك، الذي قد لا يتذكر سوى أصدقائه ومعارفه في كل شأن ثقافي يقتضي المشاركة والفعل الثقافي، وحين يرحل مصحوبا بالسلامة يبدأ مَن يأتي بعده من الصفر!