ناظم ناصر القريشي
{للأخضر في مقاماته
أمشي، في الممرّات عينها، قرب بيتي، كما لو أنني آخر..
أمشي بصحبة الأخضر: اللماع، المكتوم، الزيتي الذي يتقارب من الأصفر
ما يعلو الزيتونة أو النخلة
ما هو كثيف، ومعتم
ما يُشرق في انفتاحه
ما لا يبالي بالماشي ولا بالشمس
ما يتراقص من دون هواء
ما يَسترسل، في مواكبه الخافية، مثل موسيقى بعيدة لمنظر قريب..
الأخضر الذي يتغاوى بطلته مثل صبية بزينتها يومَ عيد،
هذا الأخضر يتبختر
في الشجر،
للبشر،
من وتر إلى وتر}.
نجد في هذا النص الذي يحاكي الطبيعة ويتوحد معها، اللون الأخضر على باليت القصيدة مضاف له الضوء بعنفوانه الشفيف، فهي قصيدة للحياة وهذا هو سر جمالها، فنحن دائما نكتب عن الحياة وإلا نكتب للحياة.
وهذا ما ندعو له وهذا ما سعى اليه الشاعر د. شربل داغر في قصيدته "للأخضر في مقاماته" وهي أحدى قصائد ديوان "موجان" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2022.
ففي المشرق من زمرد الكلام وزبرجد المعنى يعبر اللون الأخضر عن البدايات الجديدة فهو يحمل أسرار الحياة، والخصوبة والنمو، الدال على التوازن، والانتعاش، والطمأنينة، والانسجام، فسنجد في القصيدة هناك كثيراً من الحب ينمو مع الإحساس بالموسيقى وعاطفة الألوان، فهي قصيدة الطبيعة بلسان الشاعر على سيناريو الحياة المتكامل بالتأكد مع موسيقى النمو في رتمها المتعالي في نسقها المتماثل مع النسق الصاعد.
هذه القصيدة، أو المقطوعة الموسيقية، أو اللوحة التشكيلية، تحتفي باللون الأخضر وحضوره الكلي في اكتمال فكرة النماء و تدفقه في الطبيعة، فهذا الأخضر المتفائل والعذب مسه مذاق الضوء فتموسق في قيثارة النسيم، فكل صوره شعرية في هذه القصيدة هي عشبة تـلمع وتـدخل في السؤال، وهي محاولة مستحيلة للامساك بلحظة الإشراق، في نشوتها وانتشائها المتموج مع مقام اللون، حيث تتماوج اللغة مع رفيفها المحتفل بالحياة، في شكل النامي عبر هرموني الأخضر، وكأنه يستدعي الحياة للاستماع اليه ولتناغمه، فهو مدهش حتى وإن لم يبح بسره.
النص بصري في تركيبته وبنيته الشعرية، والذي تترافق فيه الموسيقى مع اللغة والإيقاع والأسلوب، والمتن وكأن نسغ الأخضر في الحياة هو الإلهام في دافق الموسيقى التي تمر في شفيف اللحن، وكأن اللون الأخضر النابض يبث رواحه في الحياة، وهذا ما يدل بمعناه، ويقترب باستعاراته، ويصل الروح من دون إيحاءات، فهو يذهب بعيداً في التأمل، واضح وممكن في المعنى، حتى يلوح في الرؤيا، فيتجدد ويعيد نفسه في الحياة في كينونته الأولى. هذا النص في بلاغته الصورية ينشر الحب والفرح والمسرة، وهو الجمال المكثف الذي لا ينتهي في لحظة، لكنه سيبدأ من هناك دوماً.. وهذه هي ديمومة الحياة.
الكلمات تدل على ملامح شخصية الشاعر التي شكلتها اللغة في الطبيعة، وستبدأ الموسيقى على وقع أقدامه في الصباح، كأنه قادم من حياة أخرى، وكأن الطبيعة تستيقظ معه فيتحول معها وفيها على قيثارة الضوء وأوتار النسيم، على مساقط الضوء على مقامات اللون الأخضر في تردد أوكتافها الحر المشع من الأخضر الدكن في قراره، إلى آخر اللمعان في جوابه ، هذه الموسيقى التي تتماوج بين الأخضر الفاتح الشفاف وصولًا إلى الأخضر الغامق الكثيف الذي يشبه عمق الحياة، فهو رمزاً للخصوبة والنماء والحياة الجديدة، إذا لم نقل أنه أسطورة الطبيعة التي تبدأ وتجدد كل يوم ، وإذا استحضرنا الآلات التي تعزف هذه الموسيقى فسنجد أن آلة الكمان هي القرب لانسيابية اللون الأخضر في هدوئه المتماثل مع السكينة والاطمئنان.
هنا في هذه القصيدة حياة كاملة تتحقق في هذا الصباح، والصباح مستمر ما استمرت الكلمات في القصيدة، فالجمال يظهر حين تجد كل شيء جميل، وهذا ما نشاهده الآن في قراءة القصيدة وهو حاضر الحضور للشاعر والطبيعة معا، فالفكرة كانت الاحتفاء باللون الأخضر ومقاماته، فكل الصور التي تبتكرها الطبيعة يحولها الشاعر إلى صور شعرية في القصيدة، وهي في حضور دائم وتتشكل في استمرارية الحضور الذي تعبر عنه، في وسط ثلاثي الأبعاد، فتتشابه بين الشعر و الطبيعة المنتعشة بالنسيم والمشبعة بالضوء، وبينهما الفعل السينمائي في حضور الحركة والانتقال من مشهد إلى مشهد، فتندرج المقامات في رؤية مضيئة عبر حضور اللون، يخلق إيقاعاً سينمائياً نابضاً يجعل الإحساس بالحركة والموسيقى مرئيا في المشهد الشعري المتحرر من حضور الآن.