عبد المنعم حمندي
تمضي السنون مشعشعاتٍ
فوقَ وجهي أنجماً
سبعون عاماً عشتُها
رفَّتْ عليَّ فراشةٌ تزهو بما نقش الزمان
تزهو وتسخرُ من خيولي اللاهثات
في السباق على الرهان
علّي أكابر في الرحيل
وفي الملاعب أمتطي صهواتها.
وفي يديَّ الصَّوْلَجَان
تمضي السنون بأضلعي
جمراتُها بملامحي
وفي غضون جبهتي
عينانِ ذابلتان
أم كفّانِ راعشتان
من خفقِ الجِنان
سبعون تعوي ..
والذئابُ حولها
تهفو إلى عهد
الفتوةِ والصبا والهيلمان
وتألّق الأحلام .. لا يأتي
ولا الماضي يعود
شيخوختي مجنونةٌ
تأتي انتقاماً للصبا
الله يا وهجَ الصبابةِ
والصبا ينثالُ فوق الزعفران
أسميتهُ الديكَ الفصيح
وتوقّد الحبّ اذا ماداعبتهُ
لمسةٌ في الاقحوان
......
كم في سماءِ الروحِ من أشعارهِ
في شقشقاتِ الماء
والأشجارُ حانيةٌ عليه
جمعتْ يداهُ الريحَ واستقوى بها
والطيرُ يغبطُ توقَهُ
وكيفَ لا..
والنبعُ يجري في يديه ؟
رفضَ الملامة
واصطفى عشّاً لهُ في مقلتيه
....
طارت به الأحلامُ
هل يطوي السماء
وفي البراحِ نخيلها وسماؤها من قبّرات؟
وعلى خطاه الأرض زادَ مدادها
انبسطَتْ له الهضبات في كل الجهات
.....
تجري السنون بخيلِها ، ونسورِها
والغيمُ يشعلُ رعدَهُ وبريقَهُ،
والأرضُ ثابتةٌ لها أوتادها
وأنا بها وحدي أدور
لم يبق من ريحِ الصبا غير الغناء
وغير أقداح الخمور
وبصيص ضوءٍ نازلٍ
من ظلمةٍ في أرضِ بور
كانت يد الأوغاد
توقدُ في دمي النيران
أركضُ خلفها ..
فأصابني شررٌ توهّج جمرهُ
وكأنهُ ما كان في المعنى
ولم يأتِ بآياتٍ ونور
.....
وتوالت السنوات تلهثُ في الحروب
أهواؤها قلقٌ بلا شكلٍ ولا لونٍ
ولا رؤيا لها عند الغروب
وفي الكروب الشمسُ قلبٌ من حجر
والصمتُ ، موتٌ لا يطنُّ ولا يرن ولا يَذر
مَنْ ذا يزَلْزِلُني اذن؟
أ ذلك الخوف المهيب.
أم خنجر الغدر المُريب
مَنْ يقرأ الغيم سوى أهوائهِ
في خاطر المجهول
أو حين تصهلُ الخيول ؟
فاحلمْ معي ..
وباغِتْ الشمس التي تجول
وأرسم لها الأنهار
في الوديان و السهول
وأجلس أمام النافذة
حتى يحينُ موعد الأفول
......
يا أول العمرِ ويا آخره الماشي
على جسر المنون
خُذْ ما زرعتَ من الحصْى
وارقبْ خُطاكَ ،
وانظرْ إلى قمرٍ يدليك الطريق
واكشفْ عن الزيف الذي قد عشتهُ ،
وعن الحواة
وعنْ الخيانةِ في الرواة
.......
إن السماءَ بعيدةٌ ..
ولربّما هي أقرب القُربى تكون
ولن تكونَ لغيرنا نحنُ العُراة
منزّهين
ومثلما جئنا عراةً
نمضي الى الموتِ عُراة
.....
سبعون تعوي ..
ما عرفتُ كُنهها
مكنونها في جوهر الشيء الذي لا يُدركُ
وعيونها أشجارها في كل فجرٍ تضحكُ
وندوبها موشومةٌ في جثةٍ تتحركُ
والله قد سقط المرابط في الوطن
وتفسَّخ الأموات من رغو العفَن
هل أرتضي الظلمات والحصباء
أم أنأى و أصعد للذرى
نحو القيامة والنشورْ؟
كان الظلام مرابطاً
اشتبكت به الأوهام تنسج غابة النيران،
تأكلني وتلفظني رماداً للقبور
أفْنى بأخيلة الرياح
وبالسراب أملأ الأنظار رفّاً من طيور
.....
سبعون تعوي في دمي
وأنا الأسير
بحومة البلدِ الأسيرْ
لا أستطيع الاغتراب
برغم ما صنع الذئاب
فتحلّقوا حول الجياع
يأكلون لحومهم
ويشربون دماءهم ..
ضَرموا الحرائق في الذهاب والإياب
أو ليس من حرجٍ على هذا الخراب ؟
.....
سبعون تعوي في دمي ..
وأنا المرابط نصف مَيتْ .
يا ليتني أنسى ولكن ما نسيتْ
كم زهرةً نبتت على قبرٍ وبيتْ
كم دمعةً حرّى سقيتْ
يا ليتني مُتّ ومنزلتي الذرى
كي لا أرى ما قَدْ رأيتْ.