عادل الصويري
أكثر المهتمين بأسلوب الروائي الأمريكي بول أوستر، والذي ترجّل عن مسرح الحياة مؤخراً؛ يرون أنه أحيا سرد ما بعد الحداثة، حتى مع احتفاظه بعناصر الحكاية التي يتم هدمُها عادةً في التوجه الما بعد حداثي.
ولعل هذه من أهم ميزات بول أوستر، إذ تأرجحت كتاباتُهُ بين ثيمتين أساسيتين: الغياب والصدفة بوصفها حقيقة حتمية.
صاحب "ثلاثية نيويورك"، أرَّخ للمكان سرديّاً عبر الثلاثيات المكتوبة على طريقة وأسلوب كُتّاب الغرب، حيث لا تجد خيطاً يربط الأحداث، سوى رؤية الكاتب نفسه، فالرؤية هي البطل الوحيد للرواية، ومحورها الذي تدور عليه الشخصيات القلقة، والأحداث المتشظية، والزمن المتخلخل، فضلاً عن الفنتازيا والعبثية وقلب الأشياء المرئية من زاوية الواقع؛ لتكون الصورة المقلوبة واقعاً منتمياً للواقع الأصلي.
هذه الأساليب التي يبتكرُها أوستر، ويضيفُها لمشاهده الموزعة على النص على نحو رؤيوي ما وراء خيالي، تجسد فعليّاً في "ثلاثية نيويورك"، ورواياتها الثلاث: "مدينة الزجاج" و "الأشباح" و "الغرفة المغلقة"، هي من جعله من أهم كُتّاب ما بعد الحداثة.
كتب الشعر في مراحل مبكرة من تجربته، لكنه لم يكن جادّاً فيه، أو وجد في الكتابة السردية ما يعبر عن رؤيته للحياة والكتابة
لدرجة أنه يصف القصص وصفاً في غاية الشاعرية حين قال: "القصص هي نغمات متنافرة مدوّية وصاخبة.
روافد من ملايين الانطباعات المتدفِّقة علينا كل لحظة".
وقد لعبت ترجماته لأعمال السورياليين دوراً في تكوين هويته الأسلوبية، والتي جعلت الواقع محتضناً العبث.
وربما كانت تلك الترجمات رد فعل إبداعي فنّي لترجماته لكتّاب متدنّي القيمة؛ من أجل لقمة العيش كما تقول الترجمات الكثيرة عنه، ومنها أنه عاش في شبابه حياة قاسية، واشتغل في البترول وحراسة المنازل؛ لذلك تصخب في رواياته أمواج الترقب البوليسية، والاستفهامات الوجودية، وكل ما يتعلّق بحياة القلق المدوّن بالكتابة بوصفها إكسيرَ بقاء، وليست مجرد ترفيه أو تنفيس، أو لحظة من لحظات
الإرادة.
الكتابة بالنسبة لبول أوستر بمثابة الفن الذي يولد من المحنة؛ لتمنحه الرؤية والصراحة التي تجعله يُصرِّح بكراهيته للرئيس الأمريكي دونالد ترمب؛ لعدائيته الفجّة مع المهاجرين.
وكثيراً ما كان يراهن على الصدفة، حتى أنها تكررت في مقولاته وكتاباته، منطلقاً من قناعة تبدو غريبة، لكنه مؤمن بها حتى أنه قال في "مدينة الزجاج" إحدى روايات "ثلاثية نيويورك": "الحقيقي هو الصدفة لا غير"، وفي ترجمة أخرى: "لا شيء حقيقيا سوى
الصدفة".
ويبدو أن هذه العبارة - من منظور نفسي – ترجمة فعلية لحياة أوستر التي مرّت عبارة عن شريط مصادفات توقف أخيراً في نيويورك، بعد أن شرحَ نفسه عبثاً وواقعاً في الروايات التي أعادت لجيبه قلم رصاصٍ خيَّب ظنَّهُ في طفولته، فلم يحصل على توقيع رياضي شهير؛ ليعوّضه فيما بعد بعيداً عن الرياضة ، وقريباً من الكتابة التي أصبح أهم روّادها وفيّاً لذلك القلم الوسيلة التي تُخرِج الكلماتِ من روحه؛ ليقوم بمهمة تدوينها على الورق.
توقف شريط مصادفات أوستر، بأكثر من سيرة ذاتية لكاتب واحد.
تلك السير كان يبتكر فيها نفسه، مثلما ابتكر عزلته التي رأى فيها العالم في العائلة وفقدان الأصدقاء، والخيبات والزواج الفاشل، وجرع المخدرات التي غيّبت ابنه دانيال، ولم يبق من هذا الشريط سوى صدف تنغمها الموسيقى معلنة غفوة المسافر واستمرار الرحلة التي تأخذه إلى الذاكرة، وهي الرحلة التي طالما أحبَّها؛ لأنه لم يكن مهتمّاً بما يُخبِّئُه له المستقبل، معتقداً بقدرة الغياب على تذويب الكآبة الوجودية، وتأصيل المصادفات التي كتبها وآمن بها.