أمزجة الشعوب والمدن

الصفحة الاخيرة 2024/05/12
...

محمد غازي الأخرس
خلال انتقادي لكتاب السيناريو العراقيين، مررت بمشكلة غياب المحليَّة في أعمالهم، وقلت أن جزءاً من المحليَّة يتمثل بإبراز روح المدن التي تدور فيها الأحداث، إذ يشيع بيننا دائماً أن لأهل بغداد روحيَّة تختلف عن روحيَّة أهل البصرة، ولأهل الموصل نكهة تختلف عن نكهة أهل النجف أو الناصرية. لكن ما معنى هذا الطرح؟، وهل له سند ثقافي يمكن الركون إليه؟ نعم، هذا الطرح معروف ومأخوذ به، رغم افتقاره للبراهين والقرائن غير القابلة للنقاش. ويتعلّق الأمر بالشعوب والجماعات التي تسكن هذه البقعة من الأرض أو تلك. لهذا يشيع أن لليونانيين روحيَّة ما وللفرنسيين طباعاً، وأن للإنكليز مزاجاً ما وللألمان أنساقاً تحركهم لتجعلهم مختلفين عن الهنود والعرب مثلاً. كان الأنثربولوجي كلود ليفي شتراوس قد قال إنّه شاع في أوروبا، خلال زمن ما، اعتقاد لدى البعض أن هناك نفسانيات للشعوب، أو سيكولوجيا، "فكان هذا البعض يعزو برودة الأعصاب الى الانكليزي، كما يعزو الفردويَّة للفرنسي وحس الانضباط للالماني". أي أنّه لكل مجتمع أسلوبه، ويعني شتراوس بذلك أن مجموعة العادات المتبعة لدى شعب من الشعوب تشكّل أنظمة فكر تحبّذ بعض أنماط العلاقات أو "التراكيب". وبعض ذلك يتجسد في الألعاب والعادات والأحلام والأساطير حيث يعثر المرء دائماً على موضوعات مهيمنة، أو  أن مجالاً "من مجالات الحياة يستأثر بالمزيد من الانتباه والاهتمام". لذا قد نكتشف أن هذا المجتمع قد يكون أقرب من غيره في التمسك بمعتقداته أو شعائره، أو إيمانه بمؤسساته السياسية أو الحربية، في حين نجد مجتمعاً آخر أقرب الى التمسك باقتصاده. أي أن لكل "مجتمع أسلوبه أو نمطه في الحياة المجتمعيَّة سواء تجلى ذلك عبر تنظيمه لنفسه او تصوراته الجماعية". 

أبرز مثال على الاختلاف بين شخصيات الشعوب هو الذي تحدث عنه الكثيرون في ما يتعلق بالمقارنة بين الشخصيتين العراقية والمصريَّة. فالعراقيون أكثر حدة وعنفاً وأقل إيماناً بالمستقبل، وأشد حزناً وشعوراً بالعدمية، من المصريين الذين يبدون أقل عنفاً وأكثر إيماناً بالحياة وما بعدها وأشد في رهانهم على المستقبل، لهذا تراهم منفتحين ويميلون إلى إسعاد أنفسهم أكثر من أهل بلاد الرافدين. كان كتاباً مهماً مثل (ما قبل الفلسفة) لعالم المصريات هنري فرانكفورت، وعالم الآشوريات ثوركيد جاكوبسن، قد قام في بنيانه الأساسي على المقارنة الضمنية بين ذهنيتي الحضارتين العظيمتين، وانتهى إلى خلاصة تفيد أن الذهنية المصرية القديمة تأثرت بالبيئة التي عاشت فيها حيث النيل لا يباغت الناس بفيضان غير محسوب، بل يفيض في أوقات معلومة في السنة، لهذا ترى القرى المصرية مطمئنة هادئة والإنسان فيها يعلم ما يخبئه غده، خلافا للعراقي القديم الذي عاش في بيئة قلقة ميالة للفوضى، فالفيضان يمكن أن يباغت القرى في أية لحظة ليحيل الأكواخ الطينية إلى وحل ويحول المزروعات إلى هباء منثور. لهذا اتصف العراقي بالعدمية والحزن والسوداوية، وانعدم لديه الرهان على المستقبل. ينطبق هذا على الجماعات التي تعيش في هذه البقعة من الأرض أو تلك، فالبصراوي ذو مزاج متأثر ببيئة مدينته المنفتحة على البحر والنهر والصحراء، كذلك الميساني له روحيَّة تختلف عن روحيَّة الموصلي أو البغدادي. وينطبق الأمر على سكنة الجبال والبوادي وسواهم.

بالعودة إلى ما افتتحنا به المقالة، من النادر أن انتبه كتاب السيناريو أو الروائيون العراقيون لهذه الملاحظة كما انتبه لها كتاب مثل أسامة أنور عكاشة مثلاً، فأبطال عمل مثل "ليالي الحلميَّة" يختلفون جذريَّاً عن أبطال عمل كـ "زيزينيا"، الذي يدور في الأسكندرية، والأخير يختلف في أجوائه ومزاج أبطاله عن مسلسل مثل "عصفور النار" الذي يدور في الريف، ولنا مع الموضوع عودة  فانتظروني.