باسم عبد الحميد حمودي
رحل الناقد والباحث المعروف، والروائي باسم عبد الحميد حمودي، الجمعة 10 أيار, أحد أبرز الأسماء في مجال الأدب الشعبي والتراثي، عن عمر ناهز 87 عاماً. وبذلك فقدت الصفحات الثقافية في جريدة الصباح أحد أعمدتها حيث شكلت مقالاته جزءا مهما في مجال النقد الأدبي والثقافي, ومقالة {هموم الإنسان المعاصرة} هي آخر ما أرسله لنا الفقيد قبل أيام من رحيله.
تتصاعد تجربة القاص والروائي ناطق خلوصي اداء وتغدو أمثولة تدرس للتنوع الشاد إلى التفاصيل. ذلك الذي يحمل رسالة فنية وفكرية تتضح في مجمل العمل الذي يقدمه الكاتب عن قصد إبداعي يشد القارئ اليه وهو يستقبل الرسالة الفنيّة والفكرية التي يجسدها العمل.
وتعد المجموعة القصصية الجديدة لناطق خلوصي التي أصدرها الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق مؤخرا تحت عنوان "خيط من ضوء" هي التجربة الثالثة بعدما اصدر مجموعتي {الهجير- عام 1978} و{شجرة الأمنيات- 2009} . بين الثانية والثالثة قدم خلوصي لفن الرواية العراقية مجموعة من التجارب المهمة في الأداء وفي تفصيل التاريخ الاجتماعي لتجارب الشخصية العراقية في سموها الفكري والاجتماعي "بيت الياسمين" وفي حضيضها وضعفها وهي تقاوم الظلم وتستدعي التضامن لتطويقه والانتصار عليه "منزل السرور" وفي صراعات الطبقات الاجتماعية في عالم جديد "اعترافات رجل مهم" و "البحث عن ملاذ" حيث تتورم الذات بالجاه والثروة وتدخل الشخوص صراعاتها وسط فساد متعدد
الجوانب. الرواية لدى خلوصي رسالة وسط تجربة اجتماعية شديدة التوتر وصدام الشخوص لصناعة التجربة الدرامية الناجحة التي يقدمها الروائي.
لذلك نحن هنا في "خيط من ضوء" لا نقف عند تجارب القصة القصيرة الاعتيادية من تأثيث المشهد وبناء الشخوص بحرفية متقنة، بل نقف عند مجموعة تجارب روائية مكثفة في قصص قصيرة.
كل تجربة منها تعد مشروعا لعمل درامي أكثر كشفا وسط بناء علاقات لحركية داخل النص تجعله أقرب إلى الرواية القصيرة "شورت نوفل ستوري" منه إلى التجربة القصصية القصيرة:
في القصة الأولى "كسرة خزف" يقدم الكاتب فصلا افتراضيا من تجربة الكاتبة اجاتا كريستي وزوجها الاثاري ماكس مالوان وكبير المساعدين المحليين "عبد العال" وهم يتصارعون ذهنيا للوصول إلى مكان كسرة خزف عثروا عليها وسط تنقيبات آثارية محددة، حيث وجد الأناء الخزفي الكبير، وهو وجود ذهني لم يتجسد..لكن الصراع قائم للوصول إلى هذا الأناء بين مالوان الذي صار لا ينام الليل بحثا، وبين عبد العال ابن المنطقة وهو يبدو ظلا دائما لأستاذه باحثا عن الأناء أيضا ليبقى عراقيا.. في وقت تكتب كريستي روايتها الجديدة وتناقش زوجها في ضرورة ترك هذه الآنية لأهل العراق فهي حقهم التاريخي!
مالوان يبحث متسترا عن مساعده غير هادئ ولا مستقر وعبد العال ظله يطارد مالوان نهارا وليلا وفي الخفاء، حتى يصل إلى الأناء الخزفي قبل مالوان ويحميه منه ناقلا اياه إلى مكان أمين وسط دهشة مالوان وألمه...أضاع عليه عبد العال سعيه المحموم للاستحواذ، حيث يكشف القاص عن القدرة على تحريك الشخوص بمهارة وسط بقعة أرض مليئة بالعاديات والرغبات الدفينة والقدرة على الإضافة الدرامية من دون إملال.
في قصة "رحمة" يتكرر عرض الموضوع القديم عن ام البنات التي تتكرر عنها ولادة البنات حتى صرن خمسة.. ثم حملت مرة سادسة وهي في مرحلة الطلق في ليلة باردة موحشة.
تبدأ أحداث القصة من هنا حيث يحرك القاص الاحداث وسط توتر درامي مستمر يبدأ بالبحث عن امرأة مساعدة من الجيران ويستمر بالبحث عن سيارة في ذلك المكان المنعزل حتى يحصلون عليها وهي تنقلهم إلى مستشفى المدينة ووجيب قلب الزوجة يخفق خوفا من طلاق قادم اذا انجبت السادسة وقلب الزوج يخفق قلقا وهو ينتظر الولادة التي تمت لتخرج الطبيبة متعبة وتنهره لأنه يسألها عن جنس الوليد.
الزوجة تخشى يمين الطلاق وقد دخل الزوج عليها حين اذنوا له حيث تحول الغضب إلى رضا والقبول بما قسم الباري فقد جاءت "رحمة" سادسة جميلة. لا تمضي مشاهد القصة بهذا الهدوء، بل هناك عصف ذهني وقلق وتكثيف لوقائع كان يمكن فسح المجال لها ان تمتد تحليلا ووصفا يتحدث في داخلها عن سنوات العسكرية والحصار، لكن القاص- الروائي اختصر التجربة وكثفها بمهارة.
في قصة "قطار الليل" تتكثف المشاهد أيضا ويغدو بناء الاحداث المركبة لتستطيل إلى نوع من القصة القصيرة الطويلة أو الشورت نوفل ستوري..إلى بناء مشهدي متسارع يحول الاحداث إلى فقرات سريعة تنتقل من مشاهد القطار القلقة إلى مشاهد البقاء في بيت الاسرة بانتظار موت الوالدة.. وحين تبدأ مرحلة جديدة من عزم المرأة على الانتقام من زوجها مع من ارسله معها تعلن صرخة قادمة موت الوالدة وضياع تجربة حسية قطعها القاص بمهارة محترف.
في "سيناريو مشهد عابر، وزفة العروس، وخيط من ضوء" وسواها تتكرر مشاهد المفارقة والاختلاف وتكثيف المشاهد وصياغة الصورة الروائية المفترضة لكل هذه القصص إلى أقاصيص قصيرة مكثفة ليست عصية على التحليل، بل على تفصيل الكشف عن معالم هذا التكثيف الدرامي الذي بدا ناجحا فنيا ولكنه - في كل تجربة - يحمل جينات التجربة الروائية
المكثفة.
وتبدو "خيط من ضوء" تنويعا على تجربة حياتية مؤلمة طالت معظم العراقيين اثناء القصف زمن الحرب لكن القاص نقلنا فيها إلى تجارب مكانية متعددة يختلط فيها الزمان بحوافز الذكريات في وقت نجد فيه "زفة عرس" صورة تراجيدية مغايرة للمألوف القديم المتشابه مع الحاضر باستخدام السلاح في أي وقت، بحيث ضاع العرس بحماقة العريس الهارب بعد عدوانه على حرس فندق العرس ونكبة العروس الوالهة ليلة عرسها.
التفاصيل كثيرة في قصص خلوصي التي هي تمارين روائية أو ابنية أولى لروايات قادمة، وهي تجربة مر بها غائب فرمان في بداياته كقاص حول معظم قصصه القصيرة إلى مشاهد في رواياته الاولى.
كما قال الاستاذ حسب الله يحيى في تقديم نصوص ناطق خلوصي إنه لم ينطق عن هوى و"انما ينطق عن كل ما وراء هذا الهوى الباهر في هذه القصص وفي كل ما قدمه" من تجارب سابقة.
تظل تجربة ناطق خلوصي الكبيرة بحاجة إلى أكثر من دراسة ورأي يليق ويغطي ذلك الثراء الدرامي الباذخ المرتبط بالإنسان وهمومه المعاصرة.