جينا سلطان
تخلق نهاية رواية "الغواص" المرشحة لجائزة الرواية الأوروبية كما هائلا من الرعب، بقدر ما هيجت أصداء محاكم التفتيش في النفس مشاعر الغضب العاجز بمجرد ذكر اسمها الذي أصبح على مر الأعوام مرادفا لكل ظلام نهض داخل القلوب الوحشية، محركا التساؤلات الجزعة عن مبعث ذلك الحقد المتأصل. خاتمة تستدعي أيضا سؤال هاينريش بول في رواية "شرف كاترينا بلوم الضائع: "من أين ينشأ العنف وإلى أين يمكن أن يؤدي"؟
لا يبحث المؤلف اليوناني مينوس إفستاثياديس من خلال بطله كريس النصف يوناني والنصف ألماني عن إجابة، بقدر ما يلتمس في مسرحية آغاممنون لاسخيلوس نوعا من المؤازرة في مواجهة الفوضى التي يتسم بها الوجود، قياسا بشخص يعبر الصحراء دون ماء أو حتى إيمان.
ويعزو عدم القدرة على الاستيعاب إلى طبيعته الانعزالية وحواسه المضطربة، وتركيزه المشتت، بحيث يدرك في أعماقه أنه لن يعثر على أي تفسير، فالدوامة التي تسحبه ببطء ليس لها شكل محدد، ولا يمكنه حتى أن يخترع واحدا لها بنفسه.
وكي يعاين تلك الدوامة التي تتمظهر بثنائية الحقد والانتقام، يمنح المؤلف بطله فسحة الاثني عشر عاما من العمل كمحقق خاص. فيورطه في قضية ثأر قديمة هيأته لحمل العنف بين عينيه، بوصفه شاهدا في مسرحية يُقتل فيها أغاممنون باستمرار مرتديا قناعا يعبر عن الدهشة أو الألم العميق، على يد زوجته كليتمنسترا. فيعادل خلع القناع كشف الجزع في مواجهة العنف المنفلت من عقاله عند الرعاع. ومع أن الأسطورة تصف انتقاماً طال انتظاره، إلا أنها تسعى لتفسير موقف كليتمنسترا، وتحويله إلى نقطة علام في مسيرة البشرية من العدم إلى العدم مرورا بالخلاص.
كان باستطاعة أغاممنون إنقاذ ابنته من الموت لكنه اختار العرش والسلطة المطلقة أمام جنوده المتعطشين للدماء. بينما جلست زوجته بجانب الطفلة الراكعة في مواجهة الحشد الذي يزأر بغضب، لتدافع عن الحياة. وحين عجزت عن حماية ابنتها لم تغفر له، وانتظرت عودته من حملته بفارغ الصبر، إذ تحتم عليها أن تأخذ ثأرها بيديها، فبعض الحسابات لا يمكن تصفيتها إلا بالموت فقط. وبذلك اعتبر المؤلف أغاممنون بمثابة جرح يتجسد كانعكاس للجنس البشري بأكمله، حين يفضل الموت على الخلاص. وبالتالي فإن كليتمنسترا تذبحه فقط لتخدش ذلك الجرح الأزلي الذي يوجد داخلنا وسنحمله جميعا حتى النهاية.
يسقط إفستاثياديس هذا الاختيار في بوتقة الحرب العالمية الثانية، حين احتلت ألمانيا النازية اليونان، وسحقت المقاومة الشعبية من خلال الترهيب، المتكئ على استنساخ إحدى أدوات التعذيب الخاصة بمحاكم التفتيش، والتي ابتكرها أحد الكهنة، وتسمى بالغواص. فيتمرد ضابط ألماني شاب يدعى أنطون روت على التعليمات ويهرب مع معتقلة يونانية، ويستقران في إحدى الجزر اليونانية، بمساعدة جد كريس، ويطلقان على طفلهما اسم خريستوس تيمنا بمنقذهما اليوناني. لكن الرضيع يقع ضحية الاحقاد المحلية التي تجرده من مستقبله كذكر، لينضج الانتقام على نار هادئة، في إثبات أننا جميعا نعيش في حالة كمون العنف. وأي شخص لا يفهم ذلك، إما أن يكون فاقداً للوعي، أو مازال يؤمن بوجود سانتا كلوز، لكنه ليس ذلك الشخص الذي يقدم الهدايا للأطفال وإنما آخر يحول دون قتلهم.
وبالعودة إلى الضابط الألماني الذي اضطر لدفن زوجته اليونانية عقب صدمتها بإخصاء طفلها، والعودة لألمانيا وبالتالي مواصلة التعلق بخشبة الخلاص، عبر ترك الجيش ومواصلة حياته المهنية كباحث. فقد ألف كتابا دمج فيه بين عناصر المقالة الفلسفية والأطروحة العلمية والخيال والدراسة التأريخية، لصياغة عمل من الصعب تصنيفه، أسماه بالغواص.
وفي عمر متقدم يتزوج بامرأة روسية تصغره بأكثر من نصف قرن، تدعى ايفا ديبليج. لكنها تخونه، ثم تبتزه وتهدده بكشف انحرافات ابنه الوحيد خريستوس، الطبيب الجراح المختص بأمراض الرئة، والذي اختار العيش في اليونان ومعالجة الأطفال مجانا. فينتحر انطون روت تاركا رسالة تحمل عبارة يونانية مقتبسة من مسرحية أغاممنون لاسخيلوس: "اواه! يا ويلاه! لقد طعنوني بطعنة قاتلة في الأعماق"، ثم يعقبها بجملة موجهة لابنه: نحن أضعف من أن ننسى.
تتمظهر عجلة الانتقام وعدم القدرة على الغفران من خلال استدراج ايفا ديبليج إلى غرفة في فندق نجمة الميناء في هامبورغ بألمانيا، ودفعها للمشاركة في تصوير مقطع فيديو مع رجلين يرتديان قناعين، فيما يعطيهما رجل آخر الأوامر باستمرار موجها المشهد بأكمله. ورغم أن الآمر ظل غير مرئي حتى النهاية، إلا أن كريس يتعرف عليه من خلال صوته؛ فهو خريستوس، طبيب الرئة الذي يطلق عليه أهالي الأطفال المرضي بواهب الوقت. وفي هذا الفيديو تنال المبتزة القصاص بتطبيق تقنية الغواص.
بالمقابل، يسرد الصياد اليوناني ستيلوس قصاصا من نوع مختلف، فقد امتهن الغوص والهبوط إلى قاع البحر بواسطة أسطوانات الأوكسجين لاصطياد السمك الكبير بعد طعنه بالرمح، ثم سحبه إلى السطح، حيث يعاني آلام الموت، وهو يحاول التنفس خارج الماء. فينتهي به الأمر بإنجاب طفل لا يمكنه التنفس دون استنشاق الأوكسجين من الاسطوانة نفسها التي استخدمها للغوص. لذلك ينتحر واهبا ابنه الوحيد رئتيه ليكفر عن ذنبه، فيما يوالف الولد أنفاسه مع عبارات كتاب الأمير الصغير، التي تصبح بمثابة التدفق الداخلي للأوكسجين، فيصبح شاهدا على الحياة، أو ربما على غيابها.
في غابة الضياع تجول كريس وهو لا يمسك في يديه بخيط للعودة، بجسد لا يحكم ولا يساعد ولا يعرف، فقط يلاحظ، محاولا عبثا خلق التوازن فوق خيط رفيع وغير مرئي.
وعندما ينتهي الحلم، وهو هنا الرواية ـ الرؤية، يحين وقت الاستيقاظ أو الغوص في الكابوس. وبالمحصلة ينظر الجميع بأعينهم، خلف كوابيسهم الشخصية، ومن خلال توقعاتهم الخاصة، لكنهم جميعا يقفون مقابل الفناء نفسه وتحت الظلام ذاته.