علي لفتة سعيد
أنْ تكون أخًا وأبًا لسبعة أجيالٍ أدبيَّة وربما ثمانية، فتلك خاصيَّة لا يهبها الرحمن إلّا من كان بقلبٍ سليم.. أنْ تكون حاضرًا حتى الرمق الأخير الذي كان بهدوء عاصفة لم تذر الرياح في العيون طوال ما يربو على التسعين عاماً إلّا ثلاث سنوات، فتلك ميزةٌ لم يحصل عليها أحدٌ سواك. أنْ تكون ملتحف الحرف، وتخلق الحرف، وتصوغ الحرف، وتبني الحرف، وتهجو الحرف، وتلوذ بالحرف فتلك إرادة لم يتمتّع بها سواك.
نحن الجيل الذي كنا ما بين السبعيني والثمانيني، كنت لنا أخًا كبيرًا وأبًا أيضًا. لا أحد من جميع الأجيال لم يمرّ حرفه أمام عينيك، ولم تستقبله في يومٍ ما، ولو كان واحدًا بلا ابتسامةٍ ونصيحةٍ ورأي. باسم عبد الحميد حمودي المالك لصفات المحبّة، لا أعتقد أنَّ من عايشه عن قربٍ، عليه سجلٌّ من الملاحظات، فلا بشر بدونها، لكنها الملاحظات التي لا تتحوّل الى أغلاطٍ وأخطاءٍ بسيطة، تذهب معه ريح أوّل ابتسامةٍ تنقّلت معنا، ما بين أماكن بغداد، حيث كنا نأتيها مثل رحّل بدوٍ، يريدون شمّ هواء العاصمة وتذكّر ما كان عليه علي بن الجهم وهو يتغزّل ببغداد لا بخليفة بني العباس.. وكنا إذا ما مدّ يده ليسلّم حين نلتقيه في الشؤون الثقافيَّة أو مقهى حسن عجمي أو اتحاد الأدباء أو حتى في الطرق التي يسلكها الأدباء، كان أحدنا قد شمّ عطر الحرف وتنشّق عبيره. حمودي الذي كلّما تقدّم بالعمر صار أكثر تواضعًا، وصار أكثر قدرةٍ على الإنتاج، فهو يعلّمنا أنَّ العمر محفوفٌ بالحرف، وأنَّ الحرف مغلّفٌ بالجمال، وأنَّ الجمال هو الروح التي كلّما صارت نسغًا تحوّلنا الى صناّع حياة. هو الذي منح الشهادة لأجيالٍ سبع كي يكونوا بموازاة الأدب العراقي وصناّعه، ليمهر مسيرة إنتاجه بالرواية والسرد والكتب المنتجة حديثًا بعمر لا يريد أنْ يقال إنَّه أرذله، بل هو أنضجه وأكمله، وكلما ضاقت الدنيا بعينيه لرحيل نصف عمره أو طلبته أو أبنائه أو أخوته في الأدب، فإنه لاذ بالحرف، كي يغنّي لمن يراه أمامه، ويقول له أنا أعينك على المسير، فقط تعلّم منّي المشي بجانب الحرف، وخذ من يدي ما لا تجعله طعامًا، بل دليل يشير لك على آبار المياه العذبة من الحياة. باسم له موقف معي لم أكن أعرفه، إلّا متأخرًا وهو يسجّل له. في عام 2001 على ما أعتقد، قدّمت رواية "مواسم الاسطرلاب" الى الشؤون الثقافيَّة لطباعتها، وكان هو الخبير الذي أسرى بهذا السر الى زميلٍ صحفي. وأخبره أنَّ هذه الرواية تتحدّث عن الطاغية ومن يصنعه بشكل عام.. لم يكتب شيئًا، وكان بإمكانه أنْ يفعل أي شيء لشابٍ لا يمت بصلة الى الواقع الضاج بالعلاقات، حتى أنَّ موظفة الشؤون الثقافيَّة في ذلك الوقت قالت لي وهي تقدّم لي التقرير بلا اسمِ، إنَّ هذا الخبير "ابن أوادم" وإلا لكتب عنك تقريرًا غير هذا الذي أوصى بعدم طباعة القصة وليس الرواية، لأنها لم تشر الى خارطة الدولة التي تتحدّث عنها الرواية. بعد سنواتٍ طويلة حينما فازت بجائزة الرواية العربيَّة في مصر، تحديداً بعد 10 أعوام سنوات من ذلك التاريخ. أخبرني الصحفي أنَّ باسمًا هو الخبير. لم أخبره كلما تحاورنا، أشعر بالامتنان له، حتى أخبرته بحوارٍ عبر "الفيسبوك". لم يرد ولم يقل نعم، أو يدلو بدلوه. لكنه طالبني بنسخةٍ من الرواية مع رواية أخرى صدرت حديثاً "سفينة اسماعيل". الحمودي الباسم الحميد، لا يمكن أنْ أصفه وأقول إنه كان أيقونة، بل هو أب الأدب العراقي مذ صيّره في تلك السنوات التي سبقت منتصف القرن الماضي، ليكون بوصلة الأدب، وكلما نظرت الى صور الأدباء، كان هو الذي يتوسّط الجميع ويشير لنا بابتسامة وكلمة "عمّي" تسبق أيَّة جملة أخرى، وحين كتبت مقالًا عن روايته "الباشا وفيصل والزعيم" كان يتشكّر منّي، كما لم يفعلها أحدٌ من معظم الأدباء الآخرين الذين يشعرون بتعاليهم، وكان هو يشعرني بتواضعه، كأنه أخٌ لنا، وهو أبٌ سنحمل اسمه مثل ربيع دائم.