جمال العتابي
تزدهر مدن عديدة من الصين بأعمال نحتية وتماثيل للفنانة “ليو لي رونغ المولودة في مقاطعة أوهان 1980” التي بدأت النحت بوقت مبكر في حياتها، واستطاعت أن تؤكد هويتها وتفرد خطابها النحتي عبر لغة معاصرة وحديثة، بمعنى آخر، أن ثمة صلة مباشرة لانتشار أعمال “رونغ” لاستجابتها لمتطلبات المدنية الجديدة، فالنحت المعاصر في البلدان الناهضة، المثقلة بخزينها التاريخي الموغل بالقدم، هو أحد أشكال المعمار، وإذا كانت وظائف النحت غير مباشرة، أو ذات طابع وظيفي، فإنها في المحصلة لا تنفصل عن مغزى المدينة المعاصرة، ففي سنوات قصيرة استطاعت “رونغ” أن تشيد مئات التماثيل للمرأة في عنفوانها وحركتها ورشاقتها وجمالها الأخاذ، لتؤكد هويتها، وهي عبر هذا التوجه خلقت من النحت وظيفته الجمالية- الاجتماعية-الحضارية، من دون اهمال التجارب النحتية الخالصة.
درست “رونغ” الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في بكين CAFA وتخرجت عام 2005، كانت احدى الطالبات المتفوقات في الأكاديمية، وعملت بشكل أساس في النحت التصويري، وعلى الرغم من تأثرها بأساتذة تاريخ الفن العظماء إلا أن اعمالها اكتسبت صفة المعاصرة تماماً.
وبسبب مهارتها العالية في النحت نالت “رونغ” العديد من الجوائز العالمية، ولعل أبرزها، جائزة التمثال الضخم لدورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في العاصمة الصينية بكين عام 2008.
تقيم الفنانة حالياً في العاصمة البلجيكية بروكسل، وبحكم إقامتها في أوربا، فانها تأثرت بأعمال النحت في عصر النهضة الأوربية، وفناني الباروك، حين كانت فلورنسا من بين أكبر وأغنى المدن في أوروبا، اذ كانت مهد عصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت شديدة الاهتمام بفن النحت وخاصة من قبل الدولة وأثرياء المدينة، فلم تخلو منازلهم من المنحوتات والتماثيل النصفية، كانت تلك الفترة بمثابة صحوة ثقافية في عالم الفن إذ أنتجت أكثر المنحوتات شهرة في العالم.
كانت “رونغ” قد تأثرت بتلك الاعمال مع تميزها في ابراز الحركة في أعمالها. وبإمكان المتلقي التعرف بسهولة على الجسد الأنثوي الرشيق، والأقمشة المعانقة للجسد، الملتصقة به، كما لو كانت رطبة تذكرنا بالآلهة الاغريقية وعرائس الالهام، انها تنحت بقوة سحرية لتهدئة الأرواح أو استدعائها أو في تطهيرها، أنها تجعل من الحركة كقوة خارقة في الجسد الأنثوي لا يمكن مقاومتها، تستطيع أن تجعل من الأشياء من حولها ترقص وهي في مكانها.
لم تعد أعمال “رونغ” مجرد منحوتات باللون “البيج”، أو البني، ولا هي منحوتات من الطين كما تبدو، إنها تحف برونزية واقعية لنساء ينتمين إلى عوالم حالمة، يجلسن على الغيم ويمسكن بقطرات المطر وتمايلات الريح.
تأثرت الفنانة بالثقافة الصينية المعاصرة، بينما تقدم فهماً دقيقاً وملائماً للمزاج الأوروبي. في حضور أعمالها يتأثر المشاهد على الفور بالبراعة العالية في عرض الأزياء، والإثارة العظيمة التي تنبثق عنها عبر الأشرعة المتمايلة، والحركات المفعمة بالحيوية بشكل مدهش، والأناقة التي تنفتح على الروح في أية لحظة.
لقد أدركت النحاتة “رونغ” الوظائف الجمالية والتسويقية لأعمالها الفنية، في ما كانت تضعه من مسافة محسوبة بين الفن الخالص والوظيفة التطبيقية، فأرادت أن تحقق التوحد ما بين القوة والخفّة الأثيرة للمادة، وعندما تتنفس رائحة الطين أصبحت أعمالها صدى للبث الروحي الشفاف الذي يمتلكه الجسد، وغدت الحركة أكثر رشاقة.
هنا شيّدت الفنانة أحلامها الجميلة، وهي تحمل كل هذا القدر من أسرار الجسد الانثوي الذي أتاح لها أن تضاعف من وتائر انتاجها الغزير، وتنصرف للفن بكل طاقتها، منتشرة على رحيب الصدر الأنثوي الذي ينداح تحت يديها ويتكور ويتلوى كالموجة الملوّنة في قلب المحيط.
إنه مقطع صغير من حياة فنانة يمتد عبر سلسلة اكتشافات، وتجارب متأنية تسبح في ضوء زهر حالم، لقد أدركت “رونغ” تلك الروح الخفية في الصلصال، ومنذ الأزل لا تعرف أية يد أولى امتدت لتصنع منه هذا السحر؟
ووهبته للإنسان، هو باقٍ من آماد زمنية بعيدة ولم يتغير، رغم أن الإنسان أطلق قوة التعبير فيه، وتواصل مع العصر الذي أنتج كل هذا الجمال.
لقد سلكت الفنانة “رونغ” الطريق الصعب في معظم أعمالها، وما من فنان سلك هذا الطريق من دون اخلاص فنجا من مهالكه، فالطين فخ كبير إذا لم يدرك النحات كيف يخلّص تعبيره من السهولة المنمّقة التي هي من اغراءاته الكثيرة، أو يخلّصه من المبالغة في استعمال النماذج عدداً وشكلاً، وهو تيه إذا عجز النحات دون السيطرة عليه فتعاطاه من خلال تنازلات تقنية أو أسلوبية، لأن النحات إذ ذاك قد يقع في النقل، والنقل غريب عن التعبير الفني الذي ينطلق في جوهره من مخيلة خلّاقة، وعاطفة شاعرة، وعقل بنّاء، ويد ماهرة.
لكنها رغم كل ذلك، تريد أن تمنحنا فرصة التأمل لما تريد أن تصنع، لعله التأليف بين رؤيتين، ملتقى شاطئ زمانين، واسترجاع ما فيهما من أحلام ووجوه أنثوية، تستعيد سحر الماضي، وتمنح الحاضر بعضاً من أشعتها الحلمية.
ولعل خصوصية النحاتة ونهجها المتميز ينبع من جدارته في التأليف والمجانسة، وقدرتها على احلال التواتر والتماثل في صلب عملها الفني، وهذا يحمل في حد ذاته سر اكتشافها لذلك النول السحري الذي تنسج عليه منحوتاتها المبتكرة، وتؤالف بالسهد والحب، والمؤانسة الصافية، مابين مفرداته ومتضاداته، ولولا أنها انفردت بهذا اللون من التأليف التشكيلي “النحتي” المضمخ بالعاطفة، لما أصبحت قريبة جداً من تلك النقطة التي تستحيل فيها “المادة” إلى أثر فني جميل.